وشتم رجل أبا ذر فقال: يا هذا لا تغرق ودع للصلح موضعا فإنا لا نكافيء من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه ودخل على الواثق معلمه فبالغ في إكرامه وإجلاله فقيل له في ذلك، فقال هو أول من فتق لساني بذكر الله وأدناني من رحمة الله.
إن هذا الخلق العظيم ليبلغ بالمؤمن الصادق حدا ينسى معه نفسه ويغيب عن ذاتيته، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يحلب للضعفاء ممن حوله بالسنح أغنامهم، فلما ولي الخلافة سمع جارية تقول: اليوم لا تحلب لنا منائحنا فسمعها فقال: بلى لعمري لأحلبنها لكم، فبقي يحلبها وهو خليفة.
وكان عمر رضي الله عنه - في خلافة أبي بكر- يتعهد امرأة عمياء بالمدينة ويقوم بأمرها فكان إذا جاءها وجدها قد مضيت حاجتها فترصد عمر يوما فإذا أبو بكر هو الذي يكفيها مؤنتها لا تشغله عن ذلك الخلافة وتبعاتها عند ذلك صاح عمر حين رآه (أنت هو لعمري).
ومسك الختام لهذه الأقباس العلوية هو تلك المعاملة الفريدة في التاريخ
التي عامل بها الأنصار إخوانهم الملهاجرين لما قدموا عليهم فارين بدينهم وحده تاركين الأهل والولد والمال، فآووهم وأكرموهم ونصروهم وأشركوهم في أموالهم حتى خلدهم القرآن بشهادته الخالدة وسجل لهم تلك الكلمة الذهبيه إذ يقول:
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. صدق الله العظيم.