به هذا العصر من تقريب المسافات، وتيسير الأسفار، وتهيئه الوسائل، ووفرة الأموال، لدخلا كبيرا في شدة إقبال الناس على الحج وليس ذلك- في اعتقادي- لتدين طرأ على الناس أو تقوى- ففي هؤلاء المتدفقين على الأراضي المقدسة كثير ممن لا يقيم الصلاه المكتوبة، بل إن فيهم من يذهب لتحقيق غرض سخيف، وهو أن يوسم بلقب حاج، وليس هذا مجرد ظن فإن الظن لا يغني من الحق شيئا، بل إنني لقيت أحد الحجاج ممن أعرفهم لا دين لهم فسألته: عما ذهب به إلى الحج؟ وإذا به يفاجئني بقوله: لا غرض لي من الحج إلا أن أتسم بلقب حاج، فياخيبة المسلمين ويا ضيعة الجهود، إذا كانت كلمة (حاج) هي الغاية من جوب القفار وخوض البحار والتعرض للأخطار ومفارقة الديار، وهناك طائف من الوهم يستحوذ على كثير من الناس فيدفع بهم إلى الحج بعد أن يبيعوا كل ما يملكون، وهو أن من حج خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فترى الرجل يطلق لشهواته العنان ويتحالف مع الشيطان فيجري معه في كل ميدان، معتقدا أن ذلك كله يتطهر منه بحجة في آخر عمره، وهذا وإن وردت فيه آثار فليس هو كما يفهم الناس، وإلا كان دين الله لهوا ولعبا، وإباحية مطلقة، وهذا يذكرني بذلك الماجن الخليع الذي قيل له: كيف أنت في دينك؟ فقال: أخرقه بالمعاصي وأرقعه بالاستغفار.
إن الحج أعظم فرصة يتيحها الإسلام للمسلم لو عرف كيف يستفيد منها
كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} من قوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} الآية.
ومن أعظم هذه المنافع وأقواها أثرا في توجيه المسلم تنبه الذاكرة فيه، فيلتفت إلى ماضيه ويذكر ما كان عليه ويقارنه بما صار إليه، كيف صار اليوم عبدا وقد كان بالأمس حرا، كيف أصبح ملكا وقد كان مالكا، كيف أمسى مثال الضعف وقد كان مثال القوة، وفي ذلك ما يحمله على طلب الأسباب والبحث عن الوسائل ومنها اجتماعه بإخوانه في دينه الذين ياتون من بلدان بعيدة والذين لا يتيسر له لقاؤهم في غير هذه المناسبة العظيمة فيتفاوضون فيما يهمهم ويتبادلون وجوه الرأي ووجهات النظر فيما يعيد للمسلم عزته وللإسلام دولته وللعالم استقراره.