ولِمَ لا تكون لغة الحجاز مقياسًا للفصاحة وقد بلغت من الرقي داخل الجزيرة العربية ما أوضحناه في الفصل السابق، حين خلت من مستقبح اللغات ومستهجن الألفاظ؟
إن الباحث يكاد يرى هذا المقياس صحيحًا لا مغمز فيه، بل بديهيًا لا مسوّغ لرده؛ ثم يبدو له أن يتساءل: إن كان الأقدمون قد اقتصروا في شواهدهم على عرب البادية، فلماذا رجحوا لغة قريش وما هي من البداوة في شيء؟ إنها على العكس من ذلك، لغة الحضارة بين العرب قاطبة!
نحسب أننا لا يسعنا، للإجابة عن هذه الشبهة، أن ننكر حضرية قريش, ولا أن نجحد تأثرها بفارس والروم أمتي الحضارة في تلك الحقبة من التاريخ, ونحسب أنه ليس من البحث الموضوعي في شيء أن نرى في استصفاء لغة قريش أن القرآن نزل بها، ففي القرآن من لهجات العرب الأخرى ألفاظ غير قليلة1, ولغة القرآن بعد هذا، حين يقال: إنها لغة الحجاز أو قريش، هي اللغة نفسها التي نقلت بها إلينا أشعار العرب وخطبهم وأسجاعهم, ولقد صادق القرآن هذه اللغة الراقية المهذبة، فزاد من ترقيتها وتهذيبها, فهذا معنى نزوله بلغة قريش.
لكن الناس -في أكثر بقاع الأرض- يملأ القديم قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم، فيحيطونه بهالة من التقديس: وذلك كان موقف العرب من لهجة قريش؛ فقد تقادم عهدها وهم يعظمونها ويعظمون أهلها، ويعرفون لهم فضلهم، إذ جعل الله قريشًا "قُطّانَ حرمه، وجيرانَ