اشتمل على الوثن المعظم تقدسه بعض القبائل، وتزدريه قبائل أخرى، فلا يغض ذلك من مكانة البيت عند المعظمين والمزدرين، واختلفت الشعائر والدعاوى التي يدعيها كل فريق لصنمه ووثنه، ولم تختلف شعائر البيت -كما يتولاها سدنته المقيمون إلى جواره والمتكلفون بخدمته- فكانت قداسة البيت هي القداسة التي لا خلاف عليها بين أهل مكة وأهل البادية، وجاز عندهم -من ثم- أن يحكموا بالضلالة على أتباع صنم معلوم، ويعطوا البيت غاية حقه من الرعاية والتقدير1.

وانطلاقًا من هذا كله، فقد كان يتفق في موسم الحج أن يجتمع حول البيت أناس من العرب، يأخذون بأشتات متفرقة من المجوسية واليهودية والمسيحية وعبادات الأمم المختلفة، ولا يجتمع منها دين واحد يؤمن به متعبدان على نحو واحد، وما من كلمة من كلمات الفرائض لم تعرف بين عرب الجاهلة بلفظها وجملة معناها، كالصلاة والصوم والزكاة والطهارة، ومناطها كلها أنها حسنة عند رب البيت أو عند الله2.

وهكذا تمضي الأيام، وتزداد مكانة الكعبة عند العرب، حتى تصبح آخر الأمر المفخرة القومية والحرم الإلهي عندهم، ثم تغدو بعد حين من الدهر، الجوار الوحيد الذي يشعر العرب عنده بشعور العروبة الموحدة، عالية الرأس، غير مستكينة لأجنبي، كائنا من كان، ذلك لأنهم كانوا يحسون أنهم من رعايا الروم في الشام، ومن رعايا الفرس في الحيرة، وأتباع للفرس أو الأحباش في اليمن، ولكنهم هنا، في مكة، عند بيت الله في حرم الله يقدسونه جميعًا؛ لأنه لهم جميعًا يضمهم إليه كما يضم أصنامهم وأوثانهم وأربابهم، يلوذون به ويأوون إليه، فكلهم من معبود أو عابد في حماية الكعبة بيت الله، وشعورهم هنا بأنهم "عرب" لم يماثله شعور قط في أنحاء شبه الجزيرة العربية، وقد أوشك أن يشمل شعب اليمن وجمهرة أقوامه، على الرغم من سادته وحكامه، فما كان هؤلاء الحكام لينفسوا على الكعبة مكانتها، ويقيموا لها نظيرا في أرضهم، لو كان شعب اليمن منصرفا عنها غير معتز بها كاعتزاز البادية والصحراء3.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015