ومنها "رابعًا" أن مكة إنما تقع على طريق القوافل بين جنوب بلاد العرب وشمالها، فضلا عن أنها قريبة من البحر الأحمر، ومن ثم فمن غير المقبول أن نتصور مكة، ولها مثل هذا الموقع الجغرافي الممتاز، دون أن تتصل بالعالم الخارجي، وتأخذ عنه بأسباب الحضارة، وقد فعلت مكة ذلك منذ أيام خزاعة على الأقل، على أن ما أقرته مكة في عهد قصي من نوع الحكم، إنما هو في جوهره تنظيم قبلي موجود في تشكيل القبيلة العربية1.
وأخيرًا منها "خامسًا" فإن هناك من آثار قصي، وأعني به دار الندوة، وما بقي حتى أيام الأمويين والعباسيين من بعدهم، ويحدثنا التاريخ أن معاوية بن أبي سفيان "41-60هـ-661-680م" قد اشترى دار الندوة من صاحبها بمائة ألف درهم، وجعلها دارا للإمارة في مكة، وأن الخليفة العباسي المعتضد بالله قد أمر بهدمها وإدخالها في المسجد الحرام2.
وأيا ما كان الأمر، فإن قصيا إنما هو أول رئيس من رؤساء مكة يمكننا الحديث عنه، دون أن يخالجنا ريب فيما نقول، فالرجل قد خلد ذكراه في التاريخ بأعماله العظيمة في مكة، رغم ريب المرتابين، والرجل قد أوجد من النظم في تنظيم الحج إلى بيت الله الحرام، ما بقي بعده مئات السنين، والرجل هو الذي جعل البلد الحرام خالصا لأهله من بني كنانة من ولد إسماعيل، عليه السلام، بعد أن أبعد عنه المغتصبين من خزاعة.
وقد قام قصي بعدة إصلاحات في مكة، فبعد أن جمع القرشيين المبعثرين في نواحي متعددة إلى وادي مكة، جعل لكل بطن حيا خاصًا به على مقربة من الكعبة، حتى تكون منازل القوم بجوار البيت الحرام، فيتعهدونه بالصيانة، ويدفعون عنه الخطر، ومن ثم فإنه لم يترك بين الكعبة والبيوت التي بنتها بطون قريش، إلا بمقدار ما يسمح للناس بالطواف، وإن كان أهم أعماله إنما هو إنشاؤه "دار الندوة"، حيث كان يدار فيها -تحت رياسته- كل أمر قريش وما أرادوه من حرب