ولعل هذه الأحداث هي التي كانت سببًا في أن يذهب بعض المستشرقين الذين اعتادوا الشك في كل رواية عربية أو إسلامية، إلى أن قصيا إنما هو شخصية خيالية، ابتدعها خيال الإسلاميين على زعم، وشخصية حربية جاءت من الشمال من السهول المحيطة بسورية على زعم آخر، ويبلغ الخيال أشده بهؤلاء المؤرخين الأوربيين حين يزعمون أن قريشًا نفسها -تلك القبيلة التي نجحت في أن تحكم مكة وأن تنقلها من مرحلة البداوة إلى زعامة شبه الجزيرة العربية، وأن تنشئ لنفسها من التنظيم السياسي والاقتصادي والديني ما يكفل لها هذا التقدم، وما يدل على معرفة كبيرة بشئون الحكم والاستقرار- لا يمكن أن تكون من هذه القبائل المتبدية في تهامة والحجاز، ومن ثم فلا بد أن تكون -فيما يزعمون- قد قدمت من الشمال، أو من وديان العراق، وربما كانت من بقايا الأنباط الذين قضى الرومان على دولتهم في أوائل القرن الثاني الميلادي، خاصة وأن قريشًا قد برعت في التجارة التي برع الأنباط فيها من قبل، كما أن لغتها التي سادت بلاد العرب، إنما هي لغة شمالية أكثر منها جنوبية1.

ولا ريب في أن هذا الزعم قد جانبه الصواب إلى حد كبير، وذلك لأسباب منها "أولًا" أن قصيا إنما هو شخصية حقيقية قد عاشت في فترة لا تبعد كثيرًا عن الإسلام، ومن ثم فلا يمكن القول أن الخيال قد اختلط بالتاريخ فيما يدور حولها من أحداث، ومنها "ثانيًا" أن القرشيين أنفسهم قد سبقوا هؤلاء المتشككين من المستشرقين إلى القول، بأنهم إنما يرتبطون بالأنباط بصلات القربي حتى أن "ابن عباس" قد أعلن منذ ما يقرب من أربعة عشر قرنًا "نحن معاشر قريش من النبط"، فضلا عن أن لغة الحجاز لم تتطور من اليمنية مباشرة، وإنما جاء التطور

طور بواسطة نورين ميديا © 2015