وقد يكون اتجاه مارشال ماكلوهان -رغم أنه أحدث اتجاهات فلسفة الإعلام الحديثة- مغرقا في الميتافيزيقية، غير أنه لا يمكن إنكار العلاقة الوثيقة بين اللغة والحضارة. فالألفاظ وتركيب اللغة يجسد أساليب الفكر والمشاعر، ولقد حاولت الأجيال جيلا بعد جيل أن تتصارع فيما بينها أو فيما بينهما وبين العالم الخارجي من أجل تطوير أساليب لغوية جديدة تلائم الفكر والمشاعر في عصر بعينه.
فجذور اللغة تنبت أساسا من واقع الثقافة والحياة العملية. ويؤكد لنا علماء الإنسان من أمثال "مالينوسكي" و"هوكارت" أن لغة المجتمع تعكس لنا طريقة تصنيفه للأشياء وتقسيمها إلى أنواع، ويبدو ذلك في سلوك الجماعة حينما تمارس نشاطها العملي. وقد شرح مالينوسكي بوضوح تلك الصعوبة التي تواجهنا عند محاولة فهم مدلول الكلمات دون الإشارة المستمرة إلى المضمون الثقافي العام.
وقد استطاع علماء اللغة المحدثون أن يكتشفوا العلاقات الوثيقة بين اللغة والتاريخ والحضارة. ولعل نظرية العالم السوفييتي بنيامين لي وورف من أحدث هذه النظريات وأخصبها. فهو يرى أننا جميعا نتعلم لغتنا في فترة الطفولة المبكرة. فيبدأ الطفل في مطلع حياته بإدراك العالم ضمن إطار لغة أمه "الأم". وبغض النظر عن تنوع وغنى العالم الخارجي يبدأ المرء برؤية وإدراك تلك الحوادث التي لها تسميات. أن لغة أمنا تحلل العالم بأسلوبها الخاص وتفرض مثل هذا التحليل والإدراك "التجزئة" علينا جميعا. فالألمان يقولون WORعز وجلING OF THصلى الله عليه وسلم WORLعز وجل أي -لو جاز لنا- "تفريد العالم" -أي التعبير عنه بالمفردات.
هذه هي فكرة وورف: أن الناس لا يعيشون فقط في عالم الأشياء التي تحيط بنا وفي عالم الحياة الاجتماعية فقط، بل وكذلك في عالم لغة الأم. أن العالم من حولنا يشيد وفق "عالم اللغة". ويعبر وورف عن هذا بقوله: إن كل لغة تتضمن -عدا الاصطلاحات- آراء وأحكاما تعاكس الآراء والأحكام الأخرى.