ولنَشرَع الآن في مسألةِ القدَر، وفي مسألة خَلقِ الأفعال، نقلًا ودليلًا من المعقول والمنقول. فنقول، وبالله الاعتصام والتوفيق:
اعلم أنّ هذه المسألة، أعني مسألةَ القدّر، هي سرُّ من أسرار اللهِ سبحانه، لا سبيل لبشرٍ إِلى الاطّلاع على كُنهِه وحقيقته، إِلاّ إِن شاء اللهُ. ولو كان لبشرٍ إِلى الوقوف على كنهِها سبيلٌ، لكان َأَولى الناسِ بذلك الأنبياءُ. وقد سَأل عنها موسى وعيسى وعُزيزٌ؛ فكان جوابهم، "إِنما أنتم عِبادي، وهذا سرُّ من أسراري؛ وأنا لا أُسأل عمّا أَفعل". فأَمسك موسى وعيسى، وعاوَد عَزيزٌ فيها؛ فأُغلِظ له القولُ، ومُحِيَ من ديوانِ النبوّةِ؛ فهو لا يُعَدّ فيهم. وأمّا نبيّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فاكتفى عن السؤال عنها بما عَلَّمه اللهُ سبحانه ممّا يَقتضِي الإِمساكَ. وقال الصِّدِّيق: "العجزُ عن دَركِ الإِدراكِ إِدراكٌ". وقال أمير المؤمنين عليُّ رضى الله عنه: "كلّما زاد عقلُ المرء، زاد إِيمانُه بالقدَر". وكفاك بأمير المؤمنين عقلًا وفهمًا؛ ثمّ هو قد أَلقى السلامَ في هذا المقامِ.
وإِنما غرَضنا وغرَضُ غيرِنا بالكلام فيها دَفعُ شُبهِ الخصومِ، المفضيَةِ إِلى الاعتقادِ الموصوم والعقد المقصود؛ لأنها شُبهةٌ شيطانيّةٌ، أصلها مُتَلقَّى مِن إِبليس، كما سبق في مناظرته. فهي تُزلزِل الاعتقادَ، وتَحِيدُ بالإِنسان عن نهجِ الرشادِ. فإِذا تَبيّن بطلانها، رَجَع الشخصُ إِلى ما جاء به الشرعُ، مِن الإِيمان والتسليم، بقلبٍ من الشُبُهات نقيّ سليمٍ. مثالُ ذلك مَلِكٌ مُتحَصنٌ بحِصنٍ، أو قَلعةٍ، وفيها نخرٌ يَخاف إن يُفتَق من قِبَلِه. فقلبُه مشغولٌ من جِهتِه. فإِذا سَده، وأَمِنَ غائلتَه، اجتَمَع همُّه وزوال غمُّه.
فلهذا، كلّ من وَقَفنا على كلامه في هذه المسألة من القَدّريّة، إِنما نجيبهم بالمدافَعات والإِلزامات، بأن نُبين أنّ الاشكال الذي يُورِدُونه لازمٌ عليهم، ولا نأتي في توجيه حقيقةِ المسألةِ بما يمثل إِليه العقلُ مِثلَه إِلى شُبَه الخصومِ. حتى إِنّ أبا عبد الله