تعبّد خلقَه بتركِ حظوظِ أنفسهم؛ فيكون تركُه هو العبادة. وهذا أقوى من حيث النظر.

أمّا قصة يحيى، فالاستدلال بها مبنيٌ على الاحتجاج بشرعِ مَنْ قبلَنا. على أنّ الخصم يَدَّعي نَسخَه بنصوص السّنة في اقتضاء النكاح؛ فلا يبقى حجّةً، باتّفاقٍ.

ومأخذ المسألة، فيما ذكره الزَنجانىّ، أنّ النهي عن الفعلِ، هل هو أمرٌ بأحدِ أضدادِه، أم لا؟ مَن قال بالأوّل، أوجَب النكاحَ؛ لأنّه منهىٌ عن الزنا؛ فيكون مأمورًا بضدّه، وهو النكاح. ومن قال بالثاني، فمذهبه ظاهرٌ. وفي الاستدلال بهذا على وجوب النكاح نظرٌ؛ فإنّ بين الزنا والنكاح واسطة؛ وهي ترك الزنا بدون النكاح صبرًا واستعفافًا. وتركُ الشيء ضدٌّه؛ فقد امتَثَل بفعلِ ضدِّ المنهيِّ عنه. ولا يلزم منه وجوبُ النكاحِ.

والتحقيق أنّه إِذا خاف الزنا بترك النكاحِ، وَجَب؛ لأنّ ترك الزنا واجبٌ؛ وما لا يتمّ الواجبُ إِلاّ به، فهو واجبٌ. فوجوبه مبني على هذا الأصل. ولَمَّا عارَضَه خظُّ النفسِ، قال الخصمُ: "يُباح له أن يأمَن غائلةَ الزنا بالنكاح؛ أمّا الوجوب، فيحتاج إِلى دليلٍ. وإِنما يَتَمَحّض ما لا يتمّ الواجبُ إِلاّ به موجَبًا فيما إِذا خلا عن معارِضٍ؛ كمسحِ جزءٍ من الرأس، وإِمساك جزءٍ من الليل، واجتناب المباحِ المشتبه خشيةَ إِصابةِ المحظورِ.

وأمّا إِجبار السيدِ عبدَه على النكاح، فهو عندنا مختص بالصغير. أمّا الكبير، فلأنّه إِن وَجَب عليه النكاحُ لِحَق الشرعِ، فالشرعُ هو المجبِر، لا السيّد. وإِن لم يجب، فمصلحة النكاح مختصّةٌ بالعبد؛ ولا ولاية عليه في ذلك، كما لو تَرَكَ من الطعام والشراب ما لا يضرُّ بماليةِ السيّدِ من بدنِه، فليس له إِجباره على أكلِ اللحم السمين والحلوى الطيّبة. والكلام فيما إِذا لم يجب عليه النكاحُ بخوفِ الزنا، فلا يَرِدُ ما ذَكَره من أنّ لبه استبقاء نفسه بصيانته.

وأمّا إِرسال الطلقاتِ الثلاث، فلم يكن محرَّمًا؛ لقطعها المعنى الذي تجب إِقامته بالنكاح، متضمِّنٌ لمصالح بالجملة، سواءً كانت واجبةً أو لا. والله تعالى ناظرٌ لعباده، ومؤدبٌ لهم، ومرشِدٌ إِلى المصالح. فولاية النكاحِ إِذا ثبتت على المحلّ، كانت تلك المصالح مستمرّةً. واستيفاء الطلاقِ يُزيلها بالكلّيّة، بحيث يبعُد استدراكُها بعدَ زوجٍ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015