هي عند التحقيق قطعيّةٌ. وأمّا مسألة عذاب القبر والشفاعة، ونحوها مِن أحكام الآخرة، فهي قطعياتٌ لا شكُ فيها؛ لأنّ النصّ فيها قاطعٌ خالٍ عن معارِضٍ معتبَرٍ. وما يُعارِض به المنكِرون شُبهٌ عقليّةٌ تَضعُف عن الاحتمال الوارد على العلوم العاديّة.

وإِذا عرفتَ بما ذكرناه من القاعدة القطعيَّ مِن غيره، صار المتنازِعون في المسائل غير القطعيّة في المثال كشاعرين استَفرغًا وُسعَهما في مدحِ مِلكٍ؛ لكن قصّر أحدُهما، وبرّز الآخرُ. فكلاهما يَستحقّ الجائزةَ في قضيّة العقل والشرع. أمّا العقل، فظاهرٌ؛ وليس هذا اعتمادًا منّا على التحسين العقليّ المتنازَع فيه. إِنما هو اعتمادٌ على التحسين المتّفَق عليه، كما سبق في موضعه. وأمّا في الشرع، فالقاعدة الإِسلاميّة العظيمة التي انبنى عليها معظمُ أعمالِ القلوب والجوارح، وهي قوله عليه السلام، "الأعمال بالنيّات"؛ مَن سأل اللهَ الشهادةَ خالصًا مِن قلبه، بَلَّغَه اللهُ منازلَ الشهداءِ، وإِن مات على فراشه"؛ إِنّ بالمدينة قومًا ما قَطَعتم واديًا إِلاّ كانوا معكم، حَبَسَهم العُذرُ"؛ وقوله لمعن بن يزيد، "لك ما أَخذتَ يا معنُ؛ ولك ما نَوَيتَ يا يزيدُ".

فكلّ هذا وأمثاله قصورٌ عن الكمال، أكملَهَ اللهُ بالنيّة. فكذلك، المخالِف في هذه المسألة، غايتُه أن يُقَصِّر عن إِدراك الصواب في نفس الأمر؛ لكنّه يَلحَق رتبةَ المجتهدين بالنيّة الصالحة. فهو كمَن مات على فراشه ناويًا للجهاد.

ومِن الحجج القاطعة في الاعتذار لهؤلاء المخالِفين ما ثبت في السنّة، مِن أنّ رجلًا كان قبلكم قال لأولاده: "إِذا مُتُّ فاحرِقوني، ثمّ اذرُوني في اليَمّ، لعلّي أُعجِز اللهَ (وفي لفظٍ: "أُضِلّ اللهَ")، فإِنّه إِن يَقدِر عَلَىّ، عذَّبَني عذابًا لا يُعذِّبه أَحدًا". وكان الرجل نباشَ القبور. فلمّا مات، فعلوا ذلك به. فأعاده الله، ثمّ أَوقَفهَ بين يديه؛ فقال: "ما حَمَلَك على ما صنعتَ؟ " قال: "مخافتك يارب". قال: "فإِني قد غفرتُ لك".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015