"أحدها: وقوع أفعالِنا بحسب دواعينا، وانتفاؤها بحسب كراهتنا". وقرّره بنحو ما قرّرتُ به الوجه الأوّلَ من الثلاثة الضروريّة. وجوابُه بما سبق فيه.
"الثاني: أنّ الأنبياء اتّفقوا على أنّ الله سبحانه أمَرَ عبادَه بأشياءٍ، ونهاهم عن أشياءٍ.
والأمرُ بالفعل يَتضمَّن الإِخبارَ بقدرة المأمور عليه. حتى لو عجز عنه لمرضٍ، أو غيره من الأسباب، لعُدَّ الآمِر له سفيهًا؛ إِذ يأمره، مع علمِه أنّه لا يَقدر على الامتثال. ولو صحّ ذبك، بصحّ أن يَبعث اللهُ رسولًا إِلى الجمادات، يُبلَّغها ما أُرسِل به؛ ثمّ يخلق فيها الحياةَ، ويعاقِبها لكونها لم تمتِثل, وذلك معلوم الفسادِ بالبديهة".
والجواب: لا شكّ أنّ الأنبياء اتّفقوا على ما ذَكرَ. لكنّ قولَه: "الأمر بالفعل يَتضمَّن الإِخبارَ بقدرة المأمور عليه"، كلامٌ مجمَلٌ. فنقول: إِن ّعنَيت أنّ قدرته مؤثِّرةٌ في وجود الفعل، فهذا محلُّ النزاع. وأيضًا، إِن عنيتَ بأنّ الأمر يَتضمَّن قدرةَ المأمورِ هو الله"، فهو ممنوعٌ؛ لأنّه راجعٌ إِلى أنّ ذلك قبيحٌ عقلًا؛ لأنّه تكليف ما لا يطاق. ونحن فقد أَبطلنا الأصلَ الأوّل، وأثَبتنا الثانى، بما فيه كفايةٌ. وأمّا ما أَلزمَه على ذلك، من تكليف الجمادات، ثمّ عقابها على تَركِ الامتثالِ، فالكلام عليه من وجوهٍ.
أحدها: أنّ وقوع ذلك جائزٌ عقلًا؛ إِذ لا يَلزَم منه محالٌ لذاته، وإِنما اللازم منه قبحُه عقلًا، وسَفَهُ فاعِله. لكنّ هذا بناءٌ على التحسين والتقبيح العقليَّين؛ وهو باطلٌ. وقد قدّمنا أنّ عندنا لا يَقبُح من الله شيء كان ما عسى أن يكون. وقد سبق تقريرُه في الوجه الثالث من أدلّتهم في الحسن والقبح.
الثاني: سلَّمنا أنّ ذلك يَلزم منه محالٌ لذاته. لكن قد قرَّرنا جوازَ التكليف بالمحال؛ ويعود الكلامُ إِليه.