وكان محمد بن عبد الوهاب قد صار منذ رجع من الحرمين فقيها عالما، ولكنه عمل بنصيحة شيخ الأمة أحمد، فارتحل يطلب مزيدا، وكان جديرا بأن يمنح ويعطى كما يأخذ ويجمع، فلما تهيأ له أن يرتحل إلى البصرة دخلها في تواضع الأئمة، لا يظهر ما عنده من العلم، وإن كان العلم ينم عن نفسه، ويتحدث بلا لسان عن فضله. وما كاد يجول أول جولة حتى بدا فضله وبان.
ولم يلبث أن تهيأ في البصرة للوعظ والإرشاد، في سمت العالم ووقاره ورقته ورفقه، فاستيقظ داء الحسد في النفوس، وسعى به الوشاة يتهمونه بأنه يحدثهم بغرائب لم يحدثهم بها شيوخهم، ويدلي بآراء لم يسمعوا بأمثالها من وعاظهم ومرشديهم، ثم ألح بهم الحسد فانبروا له يجرحونه ويؤذونه، ثم لجوا في العدوان فاعتدوا على داره ونهبوا ما كان معه من مال وكتب ومتاع، واضطروه إلى الخروج من البصرة ماشيا عاري الرأس حافي القدمين.
وحين مضى في طريقه على هذه الحال، بلغ به الإعياء في الطريق حدا موجعا، فمال به أحد من رآه إلى بلدة الزبير، فلبث بها أياما يستجم مما أصابه، ثم خرج منها معرجا على الأحساء، وكأنما دفعه القدر إليها، فرأى فيها علماء أجلاء على طريقته ومذهبه، فمسحوا عنه ما أصابه من الأذى في البصرة، حتى إذا استجم عاد إلى حريملا حيث كان والده مقيما بها.
ولقد كان لهدوئه في ظل هذه البلدة وفي جوار أبيه بعضد هناءة النفس، والتمكن للاستعداد، وما كاد يشعر بذلك حتى وافى القدر