الصِّبَا وَالْقَبُول وصادفت من النَّاس مواقع الْقبُول كَأَنَّهَا نفس الريحان وأزهاره تمزجه صبا الأصائل من أنفاس نواره فَكَأَن مداد دواته من غاليه إِذْ أَصبَحت أسعار أشعاره غَالِيَة أَلْفَاظ كَمَا نورت الْأَشْجَار وَمَعَان كَمَا تنفست الأسحار إِذا ألبس قلمه ثوب المداد عرى من الفصاحة قس إياد وَلَو حاراه الْكُمَيْت فِي حلبة البلاغة لَكَانَ قصاراه التَّقْصِير وَلَو ناظره ابْن برد لقيل لَهُ هَل يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير فيا لَهُ من شعر سَار مسير الْأَمْثَال وَبلغ مَا بلغ الصِّبَا وَالشمَال يكَاد يخرج من حدّ الشّعْر إِلَى حد السحر شفت ظروف حُرُوف مبانيه فَنمت على سلافة لطافة مَعَانِيه كَمَا نمّ الزّجاج على الرَّحِيق والنسيم على شذا الرَّوْض الأنيق وَكَانَ ذَا نفس أَبِيه وهمة وحميه يُجَاهر فِي سبّ أَعْيَان زَمَانه من أضرابه وأقرانه بل كَانَ لَا يسلم من عضب لِسَانه أحد وَلَا يدْرك لَهُ غَايَة وَلَا حد فَرُبمَا أصبح كَذَلِك وَهُوَ بِإِحْرَام الحرمان مُشْتَمل أشبعتهم سباً وفازوا بِالْإِبِلِ وَكَانَت صحبته أحلى من قبْلَة الحبيب وغفلة الرَّقِيب انْتهى قلت وَبِالْجُمْلَةِ هُوَ نادرة الزَّمَان وَوَاحِد الرّوم فِي الشّعْر وَمَعَ كَثْرَة شعره بالتركية والفارسية لم أظفر لَهُ من شعره الْعَرَبِيّ إِلَّا بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ التوأمين وهما قَوْله

(لم يبْق منا غير آثارنا ... وتنمحي من بعد أَخْلَاق)

(وكلنَا مرجعنا للفنا ... وَإِنَّمَا الله هُوَ الْبَاقِي)

ثمَّ وقفت لَهُ على هَذَا الْبَيْت الْفَذ قَالَه فِي هجاء ابْن بُسْتَان الرُّومِي وَهُوَ قَوْله

(وَإِذا أَشرت إِلَى كذوب مفتر ... فَإلَى ابْن بُسْتَان بِكَذَّابٍ أشر)

وَكَانَ يجْرِي لَهُ مَعَ أدباء عصره مطارحات ومنادمات يتداولها إِلَى الْآن أدباء الرّوم فِي مجَالِسهمْ وَيَتَحَدَّثُونَ عَنهُ بنكات كَانَت تصدر عَنهُ من ألطف مَا يكون وَمن أحْسنهَا موقعاً مَا اشْتهر عَنهُ أَنه كَانَ نظم قِطْعَة من الشّعْر فِي غُلَام مَشْهُور بالجمال فَلَمَّا سمع الْغُلَام الْقطعَة أعجبه مَا فِيهَا من التخيل وَأقسم أَنه يقبل رجله إِذا رَآهُ فاتفق أَنه صادفه فِي بعض أسواق قسطنطينية وَبَاقِي رَاكب وجماعته فِي خدمته فَدخل الْغُلَام وَأَرَادَ يقبل رجله فَمَنعه من ذَلِك وَقَالَ مَا حملك على هَذَا أَلَك حَاجَة فَقَالَ لَا وَأخْبرهُ بِالْيَمِينِ الَّذِي حلفه فَقَالَ لَهُ أَنا نظمت الشّعْر بفمي وَلم أنظمه برجلي فَخَجِلَ الْغُلَام وَانْصَرف وَوجدت فِي ديوَان أبي بكر الْعمريّ ذكر هَذِه الْوَاقِعَة وَقد نظمها فِي أَبْيَات ثَلَاثَة وَهِي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015