فإن الغناء معهود من عهد عاد، حتى كان من جملة مغنياتهم الجرادتان اللتان يضرب بهما المثل فيقال غنته الجرادتان. وكان النظر بن الحارث بن كَلَدة أول من ضرب على العود أخذه عن الفرس وعلمه أهل مكة فانتشر في الحجاز وكان يتغنى أيضاً. وفي القصة التي ساقها صاحب الأغاني في الدعوة التي دعي إليها حسان بن ثابت في آل نُبيط وقد أتوا بجاريتين إحداهما رائقة والأخرى عزة فجلستا وأخذتا مزهريهما وضربتا ضرباً عجيباً وغنتا بقول حسان:
انظر خليلي بباب جلق هل ... تبصر دون البلقاء من أحد
ورواية حسان نفسه أنه كان في الجاهلية مع جبلة بن الأيهم، وقد رأى عنده عشر قيان: خمس يغنين بالرومية بالبرابط الأعواد وخمس يغنين غناء أهل الحيرة، أهداهن إليه إياس بن قبيصة وكان يفد إليه من يغنيه من العرب من مكة وغيرها. في ذلك كله إشارة إلى أن الغناء العربي في الشام أقدم من الإسلام.
موسيقى كل أمة ملازمة لها كروحها، وهي مظهر من مظاهر حياتها، فلا يعقل أن تخلو أمة من روح حتى تجئ أمة أُخرى فتقبسها روحها. ولكن الأمة إذا اختلطت بأُخرى، وكان عند الثانية فضل على الأولى في شيء، وفي الثانية طبيعة الاقتباس ومرونة على الاحتذاء والتشبه، قد تحمل الأولى إلى الثانية ما ينمي فيها ذاك الروح فتعدله على أُسلوبها ومناحيها.
ولقد زعم بعضهم أن الإسلام لم يُحِلّ الموسيقى محلها اللائق بها، وادعى بعضهم
أنه حرمها، فكان الحظر أسهل من الإطلاق في نظرهم، بيد أن الإسلام وهو دين الفطرة لا يخرج عن حد قيود العقل، إلا أنه لا يقول بالإفراط في شيء حتى ولا بالعبادة، لأنه يكون قد دعا إذ ذاك إلى البطالة واللهو، وهما مخالفان للشرع، وبذلك تكون الموسيقى وبالاً على من يأخذ نفسه بها، ومصيبة على من ينصرف إلى سماعها، ولو صح ما قالوا فلماذا رأينا جِلّة من الصحابة والتابعين لحنوا وتغنوا، وسمعوا الألحان وطربوا لها، ولو لم يجزها الشارع الأعظم في أوقات معينة وحوادث وقعت، هل كان يجرأ أحد من أصحابه ومن بعدهم على الجلوس في مجالس الطرب، والدين غض والعهد بصاحبه غير بعيد، قال عبد الله بن قيس: كنت فيمن يلقى عمر مع أبي عبيدة مَقْدَمهُ الشام، فبينما عمر يسير إذ لقيه المقلّسون من أهل أذرعات بالسيوف والرّيحان فقال عمر: