نقل اليونان والرومان إلى هذا القطر موسيقاهم وأُصول غنائهم على الأرجح كما نقلوا أربابهم، واقتبسوا أرباباً مع أربابهم، وإذ طال عهد دولتيهم كثيراً تأصلت موسيقاهم، وثبتت مصطلحاتهم، وربما نقلوا بعض مصطلح الأمة التي حكموا عليها، في غنائها وموسيقاها. ولما انتشرت النصرانية في الشام في القرن الثالث للميلاد عُني منتحلوها بالموسيقى في كنائسهم عناية اليهود بها من قبل في بِيعَهم، وإذ اقتبست النصرانية كثيراً من عادات الروم ومصطلحاتها لم تقصر في اقتباس الموسيقى والتلحين والغناء لثبوت فوائدها الروحية.
ولما جلت بعض القبائل العربية إلى الشام يوم سيل العرم وقبله وبعده، حملت معها ما ألفت أن تفزع إليه من اللحون، وتضرب عليه من الآلات، حتى إذا كان الإسلام، وكانت مدنية الفاتحين إلى السذاجة والفطرة، وكان غناؤهم لا يتعدى الحداء والإنشاد يوم الغارة والحَفْل، وفي ظل الخيام والآطام، أخذت موسيقاهم تقتبس من الموسيقى الشامية الرومية كما تقتبس من الموسيقى الفارسية. وقال بعض العارفين: كان اقتباسها من الموسيقى الفارسية فقط. وزعم بعضهم أن أخذها كان من الرومية أكثر. ولا يعقل أن يتأخر العرب في نقل الموسيقى إلى القرن الأول للهجرة واستعدادهم لها كاستعدادهم لغيرها من الفنون، ولهم من فطرتهم ومناخ أرضهم أعظم دافع للولوع بها، وهم المعروفون بحب الارتحال وكانت لهم صلات مع جيرانهم من الأمم الأخرى منذ الزمن الأطول ولم تكن أُمة من الأمم بعد فارس والروم أولع بالملاهي والطرب من العرب.
ومع هذا فنحن مضطرون أن نشايع القائلين بأن أول من غنى هذا الغناء العربي بمكة ابن مسجح، نقل غناء الفرس إلى غناء العرب. ثم كثر الموالي من الفرس فكانوا يتعلمون في مكة والمدينة، ومنها ينتقلون إلى الشام والعراق ومصر وغيرها
من الأصقاع التي استظلت براية الإسلام. وفي الأغاني أن سعيد ابن مسجح أبو عثمان مولى بني جُمح وقيل إنه مولى بني نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، مكي أسود مغنٍ متقدم، من فحول المغنيين وأكابرهم، هو أول من وضع الغناء منهم، ونقل غناء الفرس إلى غناء العرب، ثم رحل إلى الشام، وأخذ ألحان الروم.
وقيل: إن أول من أخرج الغناء العربي جرادة، جارية ابن جدعان وفيه نظر