يفارق فروق إلا من أكره، وهناك النعيم والهناء وضروب الشهوات البشرية، وإذا جاء هذه الديار والٍ كبير من العمال فلإملاء هميانه على الأكثر بأموال الأمة ليعود إلى العاصمة سريعاً، يعيش عيشاً طيباً وينعم في قصورها بأمواله وطرائفه، ويجني في سنة ثروة كبرى تكفيه وأولاده وأحفاده على غابر الدهر.
لم يكن ابن الشام يتبرم بنظام الدولة لزيادة في الجباية، بل لأن الجباية كانت على
غير قاعدة مطردة، قد تجبى جباية سنتين أو ثلاث في غير أوقاتها في آن واحد، ولا تراعى في الجبايات أعوام القحوط والجدوب والمصائب، وإذا ضاقت الحال بأحد العقلاء أو ببعض الجماعات فرفع صوته بالشكوى عدوه خارجياً وقاتلوه وحرَّفوا دعوته على ولاة الأمر في الاستانة، ولبّسوا على العامة في أمره، حتى يسكتوا نأمته ويزيفوا دعوته، وإلا فلا يعقل أن يسكت جميع الناس عما ينال الأمة من هذه الطريقة المعوجة في الإدارة، فالخير في الناس ما انقطع ولن ينقطع، ومهما بلغ من انحطاط شعب لا يخلو من نبهاء يجاهرون بالحق، ولو كان في المجاهرة حتفهم أحياناً.
وقد مهر رجال هذا الدور في تزيين الباطل وإلباسه ثوب الحق، وتقليل عدد الهالكين والشاكين والثائرين والناقمين، وإذا نشبت ثورة أو حدثت فتنة أو تألف جماعة لمقصد شريف، وكثيراً ما يصورون العذاب الأليم في صورة نعيم مقيم، ولا يعرضون على السلطان إلا المسائل الكبرى، كأن تتقد ثورة في الشام لا يمكن تلافيها إلا بإرسال جيش كبير من آسيا الصغرى، وتحتاج إلى مال لا بد من استصدار إرادة سنية بأدائه من خراج الولاية الفلانية. وغدا قتل الإنسان وسبي النساء والصبيان وخراب العمران، من الأمور المألوفة في تلك الأزمان. وفي هذا القرن بدأ الحكام وأرباب المقاطعات ينوعون أسماء الجباية كأن يقولوا الشاشية والبزرية، لسد عوزهم والقيام بواجب الضمانات الدولية، وكثير من الفتن كان الداعي إليها تأخر المقطعين عن تأدية ما عليهم من الجباية للدولة في أوقاتها، فتعدهم عصاة عليها وتسوق عليهم قوة تكون عاقبتها نكالاً على صاحب الإقطاع أو المتسلم، وخراباً على البلاد وأهلها من كل وجه.