والدولة قلما سعت إلى استئصال شأفة الشر، وما بحثت في أسبابه قط فتلافتها قبل وقوعها، وقلما اهتمت للفتن إلا إذا التهب شرارها وخشي منها على سلطانها،
وندر أن أعدت المستعدين، ورفعت ظلامة المظلومين، ولماذا تهتم وكل قطر نشز عليها تضر به بعسكر من أهل القطر الأقرب إليه، إن لم تستطع ضربه بأبناء بلده أنفسهم، وإذا خافت من والٍ أو صاحب إقطاع قوة تسلط عليه خصمه أو جاره، فالناس أبداً متعادون متشاكسون، والألفة ارتفعت من بين أهل البلد الواحد فكيف تأتلف العناصر، وما ذلك إلا لتنفيذ رغائب السلطان الذي لا يرى لمملكته بقاء إلا إذا تباغض الناس وتربص كل فريق بالفريق الآخر الدوائر.
بدأ القرن وعبدون باشا والي صيدا يوغل في مظالمه، وجعفر باشا والي دمشق ليس دونه في إنشاء المظالم، أما الأمراء المتغلبة من أبناء الأقاليم فكان أكثرهم من أحفاد الذين سبقوهم في غزة ونابلس وعكار ولبنان ووادي التيم وبعلبك وحوران والكرك وسليمة. قال راشد: إن بعض أعيان دمشق أغراهم المال والإقبال فأرادوا الخروج عن الطاعة ومفارقة الجماعة، فكادوا لواليهم حمزة باشا وطردوا عسكره إلى خارج دمشق وقاموا بأفعال شنيعة رافعين علم الثورة، فنقل حمزة باشا إلى إيالة طرابلس وأخذ الأهلون عند رحيله يطالبونه بما كانوا أهدوه إليه من الكراع والبسط وغيرها ونهبوا أتباعه. ثم عين أحمد باشا مكانه فلم يساعده الوقت على التنكيل بهم وخلفه مصطفى باشا مكانه فاضطر أيضاً لإلقاء حبلهم على غاربهم. ولما عين كورجي محمد باشا أجريت عليه التنبيهات اللازمة ليطهر الأرض من هؤلاء الأعيان فدعا الوالي تسعة منهم كما دعا العاصين محمد آغا صدقة ومحمد آغا قوشجي وبطش بهم وأرهب غيرهم من الخوارج. هذا ما قاله راشد في هذه الفتنة، ولم يقل إن والي دمشق ارتشى من الناس وظلمهم حتى ثاروا عليه، بل قال: إنهم أهدوا إليه أيام ولايته وطالبوه بهداياهم لما رحل عنهم فأبانوا عن صغر نفوسهم، وهذا مما يظهر ذهنية الدولة في تلك الأيام، وأن الوالي يجب أن تهدى إليه الخيول والطنافس والأعلاق وربما الدنانير والدراهم من غير نكير. وما ندري
كيف تكون الرشوة إن لم تكن هذه الهدايا هي الرشوة بعينها.