أن الحسد المتأصل في الطبقات الدينية والسياسية كان يمزقها ويحول بين المصريين القدماء وبين كل صلة بالشام. فكانت الشام إذاً المستودع الوحيد للعالم المعروف تأتي حاصلات آسيا وإفريقية مع القوافل إلى موانئ الشام حيث تحمل على سفن فينيقية، وأتت أزمان على الشام كانت تخرب بأيدي الفاتحين، وتخرب أيضاً بالحروب المتواصلة بين الممالك الصغرى التي كانت تنازع هذا القطر. فأضاع بها مكانته، خصوصاً منذ تخلصت مصر من نفوذ كهنتها، وغدت منافسة لها بأن جعلت من مركزها الواقع على بحرين مستودعاً سهل التجارة بين أنحاء العالم.
وكان السبب في كثير من الحروب التي نشبت بين الشاميين والآشوريين والبابليين والمصريين ثم مع ممالك الروم في الغرب، مسائل التجارة على الأغلب وإرادة الشاميين أن يفتحوا صدر أرضهم لتنفذ إليها تجارات جيرانهم أو غيرهم من الشعوب. ومن أهم المدن التي استأثرت بالتجارة في القديم البتراء ثم تدمر ثم حلب ودمشق. وكانت مدن فينيقية لولعها بالتجارة تترك الزراعة حتى بلغت الحال بأهل صور أن أغفلوا تعهد الأرض وكانوا يشترون مؤونتهم من الجليل والسامرة واليهودية، ولما حاصر الإسكندر صور اضطر أن يستجلب أزودة جيشه من هذه الحال.
وذكر ديودروس أن ثروة الأنباط أصحاب البتراء كانت من الاتجار بالطيوب والمر وغيرهما من العطريات، يحملونها من اليمن وغيرها إلى مصر وشواطئ البحر المتوسط، ولم تكن تجارة تمر في أيامهم بين الشرق والغرب إلا على أيديهم، وكانوا يحملون إلى مصر خاصة القار لأجل التحنيط. ولما استولى الرومان على القطر انتقلت التجارة إلى تدمر وفارس. ووفق الفرس إلى تحويل
التجارة عن مصارفها القديمة إلى أصقاع الفرات والخليج الفارسي. وأخذ الرومان يعنون بإنشاء الطرق المعبدة في الشام، والوصل بين الشام وأقطار الأخرى كالجزيرة والعراق والحجاز ومصر وآسيا الصغرى، ولا تزال إلى اليوم بعض هذه الطرق ماثلة للعيان في صرخد والشراة والكرك وأيلة وجرش، وهذه كانت طرق البتراء إلى داخل الشام، وكانت أنطاكية ترسل إلى رومية الأصواف والأنسجة والحنطة، والشرق يبعث إليها بأدوات الزينة والرفاهية