تتوقف الصناعات في بلد على وجود المواد الأولية فيه، وكان ذلك في القديم أقوى عامل في قيام الصناعات، والمواد الأولية في الشام على حصة موفورة لا ينقصها اليوم إلا الفحم الحجري وبعض الأصباغ. وكانت الشام منذ عرف تاريخها مشهورة بصناعاتها لتوفر موادها المستخرجة من سطح أرضها وبطنها. وتسلسلت الثقافة بها تسلسلاً عجيباً في البيوت الصناعية، وكانت الأمة الخالفة تأخذ عن الأمة السالفة هذه الثقافة والدربة على نحو ما يعلم الصناع أبناءهم. والصنائع كما قال ابن خلدون لا بد فيها من العلم، وإنك لتجدها في الأمصار الصغيرة ناقصة ولا يوجد منها إلا البسيط، فإذا تزايدت حضارتها ودعت أمور الترف فيها إلى استعمال الصنائع خرجت من القوة إلى الفعل، وعلى نسبة رسوخ الحضارة وطول أمدها تكون جودة الصنائع في الأمصار.
إن قطراً هو معدن الحرير والصوف والوبر والمِرعِزّي والقطن والكتان والقنب يفيض عن حاجياتها وكمالياتها. وفيها الحديد والنحاس والقصدير وغيرها من المعادن، وتجود في سهولها وجبالها الأخشاب على أنواعها، وتكثر في أرجائها الحيوانات الداجنة والمفترسة، وفيها المياه الدافقة والشلالات البديعة. إن قطراً يحوي هذه الخيرات لا يحتاج إلى أيدٍ صناع لصنعها، وعيون عُوّدت النظر إلى الجميل واقتباس النافع منه، ونفوس طبعت على حب التقليد والاحتذاء، حتى تخرج ما به تفاخر، وتعيش من عملها عيشاً غضاً نضراً.