الناس كأجناس الطير، ولا يتفق نوعان من الطير إلا وبينهما مناسبة، ورأى يوماً غراباً مع حمامة فعجب من ذلك، وقال: اتفقا وليسا من شكل واحد، ثم طارا فإذا هما أعرجان، فقال: من ههنا اتفقا، ولذلك قال بعض الحكماء: كل إنسان يأنس إلى شكله، كما أن كل طير يطير مع جنسه، وإذا اصطحب اثنان برهة من زمان ولم يتشاكلا في الحال، فلابد أن يفترقاً، وهذا معنى خفي حتى تفطن له بعض الشعراء فقال:

وقائل كيف تفارقتما ... فقلت قولا ً فيه إنصاف

ج

لم يك من شَكْلي ففارقته ... والناس أشْكالوألاف10هـ

... وقد أطال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – في تقرير ذلك المعنى، ورد ما يثار حوله من شبه، في الباب الخامس في دواعي المحبة ومتعلقها من كتاب القيم "روضة المحبين" وخلاصته على سبيل الإيجاز: التناسب بين الأرواح من أقوى أسباب المودة: وكل امرئ يصبو إلى من يناسبه، وهذه المناسبة نوعان: أصلية من أصل الخلقة، وعارضة بسبب المجاوزة، أو الاشتراك في أمر من الأمور، فإن من ناسب قصدك قصده حصل التوافق بينك وبينه، فإذا اختلف القصد زال التوافق، وأما التناسب الأصلي فهو اتفاق أخلاق، وتشاكل أرواح، وشوق كل نفس إلى مشاكلها فإن شبه الشيء ينجذب غليه بالطبع، فتكون الروحان متشاكلتين في أصل الخلقة، فتنجذب كل منهما إلى الأخرى بالطبع، وقد يقع الانجذاب والميل بالخاصية، وهذا لا يعلل، ولا يعرف سببه، كانجذاب الحديد إلى الحجر المغناطيسي، ولا ريب أن وقوع هذا القدر بين الأرواح أعظم من وقوعه بين الجمادات، وإذا كانت المحبة بالمشاكلة والمناسبة ثبتت وتمكنت، وإذا لم تكن بالمشاكلة فإنما هي محبة لغرض من الأغراض تزول عند انقضائه وتضمحل، فمن أحبك لأمر ولى عند انقضائه.

... والمقصود أن المحبة تستدعي مشاكلة ومناسبة، وذكر لبقراط رجل من أهل النقص يحبه فاغتنم لذلك، وقال: أحبني غلا وقد وافقته في بعض أخلاقه، واخذ المتنبي هذا المعنى فقلبه وأجاد فقال:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015