خطبة المسجد الحرام - 3 صفر 1432 - الفرق بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة - الشيخ أسامة خياط
الخطبة الأولى
الحمد لله الحكم العدل اللطيف الخبير، أحمده - سبحانه - له الدنيا والآخرة وإليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا وقوفكم بين يديه يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [النبأ: 40].
عباد الله:
في ضرب الأمثال للناس من تقليب المعاني وإيضاح الحقائق ما يبعثُ على حُسن القبول وكمال التسليم لبراعة التصوير وبلاغة التشبيه، وهي من فنون القول البليغ الذي أمر الله به نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [النساء: 63].
ولذا فحين أراد - عليه الصلاة والسلام - أن يُوجِّه الأنظار إلى حقيقة الحياة الدنيا وافتتان النفوس بها وافتتان الناس بها وبزهرتها وزينتها وزخرفها قال: «إن الدنيا حلوةٌ خضِرة، وإن الله مُستخلِفكم فيها فينظر كيف تعملون .. » الحديث؛ أخرجه مسلم في "صحيحه"، والنسائي في "سننه".
ولا ريب أن للحلاوة والخُضرة مقامهما في النفوس؛ إذ هما موضع أنسٍ لها، وسبب إمتاعٍ تبلغُ به من السرور ما يحمِلُها على دوام الإقبال عليه والانصراف إليه، وللناس في هذا الإقبال والانصراف موقفان:
أحدهما: موقف أُولي الألباب الذين هداهم الله، فسلكوا أصوبَ المسالك، واهتدوا إلى أشرف غاية، فعلموا - وإن كان لهم أن يأخذوا بحظِّهم ويُصيبوا ما قُدِّر لهم من نعيم العاجلة - فإن عليهم الحذر من أن يُشغِلهم هذا النعيم ببهجته ونضرته وبريق سحره عن ذلك النعيم المُقيم، والبهجة الباقية، والمتاع الذي لا يفنى، ذلك المتاع الذي أعدَّه الله للصالحين من عباده، وأخبر عنه بقوله - عزَّ اسمه -: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 30، 31].
وأخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله - في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله - عزَّ وجل -: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأَت، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خَطَر على قلب بشر، واقرأوا إن شئتم: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 17]».
والذي وصفه أيضًا بقوله - عليه الصلاة والسلام -: «إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ يُنادِي منادٍ: إن لكم أن تصِحُّوا فلا تسقَموا أبدًا، وإن لكم أن تحيَوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا، وذلك قول الله - عز وجل -: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 43]»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه"، والترمذي في "جامعه" من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.
وبيَّن عِظَم قدره وعلوَّ منزلته على كل نعيمٍ في الدنيا بقوله: «غَدوةٌ في سبيل الله أو رَوحةٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولَقَابُ قوسِ أحدكم أو موضع قيده - أي: السوط - في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأةً من نساء أهل الجنة اطَّلَعت على أهل الأرض لأضاءَت الدنيا وما فيها ولملأَت ما بينهما ريحًا، ولنَصِيفُها خيرٌ من الدنيا وما فيها»؛ أخرجه البخاري ومسلم في "صحيحيهما"، والترمذي في "جامعه"، واللفظ له.
إنه - يا عباد الله - نعيمٌ لا مُكافِئَ ولا مُساوي له فضلاً عن أن يفوقه أو يزيد عليه، فلا عجبَ أن يكون لهم في كل بابٍ من أبواب الخير نصيبٌ وافرٌ بالقيام بأوامر ربهم - سبحانه - أداءً للفرائض، وكفًّا عن المحارم، وازدلافًا إليه بالنوافل، واشتغالاً بكل نافعٍ يمكُثُ في الأرض، وإعراضًا عن الفضول والزَّبَد الذي يذهبُ جُفاءً، مُستيقنين أنهم حين يتخذون من أعمارهم المحدودة طريقًا إلى رضوان ربهم بما يستغرقونها من الأعمال وما يُودِعونها من الصالحات إنما يزرعون اليوم ليحصُدوا ثمار غرسهم غدًا، مُستحضِرين - على الدوام - قول ربهم - عزَّ وجل -: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى: 20]، وقوله - سبحانه -: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء: 19].
فكانوا بهذا النهج السديد، وهذا المسلك الرشيد خيرَ من امتثل الأمر الرباني الوارِد في وصية لقمان لابنه: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ .. الآية [القصص: 77]، فأحسَنوا إلى أنفسهم غاية الإحسان باتخاذهم الحياة الدنيا مُسلةً وسبيلاً مُوصِلاً إلى رضوان الله، وإلى نزول الجنة دار النعيم المُقيم، وكانوا بذلك أحكم الخلق، وأعقل العباد وأكرمهم على الله.
وعلى العكس منهم: أولئك الذين أغفل الله قلوبهم عن ذكره، واتبعوا أهواءهم وكان أمرهم فُرُطًا، فإنهم جنَحوا إلى سُبُل الضلال، وحادوا عن الجادة، فقعدوا عن أداء الفرائض، ووقعوا في محارم الله، واستكثَروا من أكل الحرام، وعبَدوا الدينار والدرهم، وقام الشُّحُّ عندهم مقام البذل فتقطَّعت بينهم الأسباب، ووَهَت الوشائج، وانفَصَمت العُرى، وأضحَى التمتُّع بالنعيم الفاني مُنتهى قصدهم، وغاية سعيِهم، وأكبر همِّهم، ومبلغ علمهم، جمعوا لدنياهم ونسوا أخراهم، فلم يرفعوا بثوابها رأسًا، فكان جزاؤهم كما قال - سبحانه -: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء: 18]، وحقَّ عليهم ذمُّ الله وتوعُّده لهم في قوله - عزَّ من قائل -: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: 1 - 8].
فاتقوا الله - عباد الله -، وكونوا مع الذين ابتغَوا فيما آتاهم الله الدار الآخرة، ولم ينسَوا نصيبَهم من الدنيا، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب، ولا تغُرنَّكم الحياة الدنيا بزخرفتها وزينتها؛ فقد بيَّن لكم ربكم - سبحانه - حقيقتَها وواقعها بأوضح بيانٍ فقال - وهو أصدق القائلين -: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد: 20].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنه نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في "صحيحه"، والترمذي في "جامعه" عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قد أفلَحَ من أسلم ورُزِق كفافًا وقنَّعه الله بما آتاه».
وفي الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتًا»، وفي رواية: «كفافًا».
وهو توجيهٌ نبويٌّ ما أحكمه وما أعظمه، وما أجمل العُقبى في الأخذ به بانتهاج نهج القناعة التي تسكن بها النفس، ويطمئنُّ القلب، وتطيبُ الحياة، فإنما هي دار انتقالٍ ومرٍّ لا يصحبُ المرءَ منها إلا ما قدَّم لنفسه من الصالحات.
فاتقوا الله - عباد الله -، وليكن هذا النهج السديد خير ما تعتدُّونه في سيركم إلى ربكم.
واذكروا على الدوام أن الله تعالى قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خير من تجاوز وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائر الطغاة والمفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحب وترضى يا سميع الدعاء، واكتب له ثوب الصحة وأتِمَّ عليه ثوب الصحة والعافية.
اللهم وفِّقه ونائبَيه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد، يا من إليه المرجع يوم المعاد.
اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم زِدنا ولا تنقصنا، وأكرِمنا ولا تُهِنَّا، وأعطِنا ولا تحرِمنا، وآثِرنا ولا تُؤثِر علينا، وأرضِنا وارضَ عنَّا يا رب العالمين.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر.
اللهم اكفِنا أعداءك وأعداءنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءك وأعداءنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءك وأعداءنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8].
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين