حتى إذا استسلموا لأمر اللّه، وارتضوا حكمه ذاك، فاستقر فيهم مدلول الإيمان .. عاد ليرد عليهم أربعة أخماس الغنيمة، ويستبقي الخمس على الأصل - للّه والرسول - يتصرف فيه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -،وينفق منه على من يعولهم في الجماعة المسلمة من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل .. عاد ليرد عليهم الأخماس الأربعة، وقد استقر في نفوسهم أنهم لا يملكونها ابتداء بحق الغزو والفتح، فهم إنما يغزون للّه ويفتحون لدين اللّه إنما هم يستحقونها بمنح اللّه لهم إياها كما أنه هو الذي يمنحهم النصر من عنده ويدبر أمر المعركة وأمرهم كله .. وعاد كذلك ليذكرهم بأن الاستسلام لهذا الأمر الجديد هو الإيمان .. هو شرط الإيمان، وهو مقتضى الإيمان ..
«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ .. إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» ..
وهكذا تتواتر النصوص، لتقرر أصلا واضحا جازما من أصول هذا الدين في اعتبار مدلول الإيمان وحقيقته وشرطه ومقتضاه.
ثم نقف أمام وصف اللّه - سبحانه - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «عبدنا» في هذا الموضع الذي يرد إليه فيه أمر الغنائم كلها ابتداء، وأمر الخمس المتبقي أخيرا: «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ، وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» ..
إنه وصف موح .. إن العبودية للّه هي حقيقة الإيمان وهي في الوقت ذاته أعلى مقام للإنسان يبلغ إليه بتكريم اللّه له فهي تجلى وتذكر في المقام الذي يوكل فيه إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - التبليغ عن اللّه، كما يوكل إليه فيه التصرف فيما خوله اللّه.
وإنه لكذلك في واقع الحياة! إنه لكذلك مقام كريم .. أكرم مقام يرتفع إليه الإنسان ..
إن العبودية للّه وحده هي العاصم من العبودية للهوى، والعاصم من العبودية للعباد .. وما يرتفع الإنسان إلى أعلى مقام مقدر له، إلا حين يعتصم من العبودية لهواه كما يعتصم من العبودية لسواه.