نفوسهم ولما أن علم اللّه منهم أنهم لا ينتظرون جزاء في هذه الأرض - كائنا ما كان هذا الجزاء ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم، وقيام هذا الدين في الأرض بجهدهم - ولما لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجنس ولا قوم، ولا اعتزاز بوطن ولا أرض. ولا اعتزاز بعشيرة ولا بيت ..
لما أن علم اللّه منهم ذلك كله، علم أنهم قد أصبحوا - إذن - أمناء على هذه الأمانة الكبرى. أمناء على العقيدة التي يتفرد فيها اللّه سبحانه بالحاكمية في القلوب والضمائر وفي السلوك والشعائر، وفي الأرواح والأموال، وفي الأوضاع والأحوال .. وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم ليقوموا به على شريعة اللّه ينفذونها، وعلى عدل اللّه يقيمونه، دون أن يكون لهم من ذلك السلطان شيء لأنفسهم ولا لعشيرتهم ولا لقومهم ولا لجنسهم إنما يكون السلطان الذي في أيديهم للّه ولدينه وشريعته، لأنهم يعلمون أنه من اللّه، هو الذي آتاهم إياه.
ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوي الرفيع، إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء، وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها .. راية لا إله إلا اللّه .. ولا ترفع معها سواها .. وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره المبارك الميسر في حقيقته.
وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص للّه، لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى دعوة قومية، أو دعوة اجتماعية، أو دعوة أخلاقية .. أو رفعت أي شعار إلى جانب شعارها الواحد: «لا إله إلا اللّه» ..
ذلك شأن تصدي القرآن المكي كله لتقرير: «لا إله إلا اللّه» في القلوب والعقول، واختيار هذا الطريق - على مشقته في الظاهر - وعدم اختيار السبل الجانبية الأخرى والإصرار على هذا الطريق ..
فأما شأن هذا القرآن في تناول قضية الاعتقاد وحدها، دون التطرق إلى تفصيلات النظام الذي يقوم عليها، والشرائع التي تنظم المعاملات فيها .. فذلك كذلك مما ينبغي أن يقف أمامه أصحاب الدعوة لهذا الدين وقفة واعية ..