إن طبيعة هذا الدين هي التي قضت بهذا .. فهو دين يقوم كله على قاعدة الألوهية الواحدة .. كل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الأصل الكبير .. وكما أن الشجرة الضخمة الباسقة الوارفة المديدة الظلال المتشابكة الأغصان، الضاربة في الهواء .. لا بد لها أن تضرب بجذورها في التربة على أعماق بعيدة، وفي مساحات واسعة تناسب ضخامتها وامتدادها في الهواء .. فكذلك هذا الدين .. إن نظامه يتناول الحياة كلها ويتولى شؤون البشرية كبيرها وصغيرها وينظم حياة الإنسان لا في هذه الحياة الدنيا وحدها، ولكن كذلك في الدار الآخرة ولا في عالم الشهادة وحده ولكن كذلك في عالم الغيب المكنون عنها ولا في المعاملات الظاهرة المادية، ولكن في أعماق الضمير ودنيا السرائر والنوايا .. فهو مؤسسة ضخمة هائلة شاسعة مترامية ..
ولا بد له إذن من جذور وأعماق بهذه السعة والضخامة والعمق والانتشار أيضا ..
هذا جانب من سر هذا الدين وطبيعته يحدد منهجه في بناء نفسه وفي امتداده ويجعل بناء العقيدة وتمكينها، وشمول هذه العقيدة واستغراقها لشعاب النفس كلها .. ضرورة من ضرورات النشأة الصحيحة، وضمانا من ضمانات الاحتمال والتناسق بين الظاهر من الشجرة في الهواء، والضارب من جذورها في الأعماق ..
ومتى استقرت عقيدة: «لا إله إلا اللّه» في أعماقها الغائرة البعيدة، استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه: «لا إله إلا اللّه» وتعين أنه النظام الوحيد الذي ترتضيه النفوس التي استقرت فيها العقيدة .. واستسلمت هذه النفوس ابتداء لهذا النظام حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته، وقبل أن تعرض عليها تشريعاته.
فالاستسلام ابتداء هو مقتضى الإيمان .. وبمثل هذا الاستسلام تلقت النفوس تنظيمات الإسلام وتشريعاته بالرضى والقبول، لا تعترض على شيء منه فور صدوره إليها ولا تتلكأ في تنفيذه بمجرد تلقيها له. وهكذا أبطلت الخمر، وأبطل الربا، وأبطل الميسر، وأبطلت العادات الجاهلية كلها، أبطلت بآيات من القرآن، أو كلمات من رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بينما الحكومات الأرضية تجهد في شيء من هذا كله بقوانينها وتشريعاتها ونظمها