ولعمري لقد أحسن الإِمَام الباقلاّني فِي كتاب إعجاز الْقُرْآن بإطالة لِسَانه بتزيف هَذَا المطلع حَيْثُ قَالَ: الَّذين يتعصبون لامرىء الْقَيْس ويدّعون محَاسِن الشّعْر يَقُولُونَ: هَذَا من البديع لِأَنَّهُ وقف واستوقف وَبكى واستبكى وَذكر الْعَهْد والمنزل والحبيب وتوجّع واستوجع كلّه فِي بَيت وَنَحْو ذَلِك.
وَإِنَّمَا بيّنّا هَذَا لئلاّ يَقع لَك ذهابنا عَن مَوَاضِع المحاسن إِن كَانَت ولاغفلتنا عَن مَوَاضِع الصِّنَاعَة إِن وجدت.
تأمّل أرشدك الله تعلم أَنه لَيْسَ فِي الْبَيْتَيْنِ شَيْء قد سبق فِي ميدانه شَاعِرًا ولاتقدّم بِهِ صانعاً. وَفِي لَفظه وَمَعْنَاهُ خلل فأوّل ذَلِك أَنه استوقف من يبكي لذكر الحبيب وذكراه لايقتضي بكاء الخليّ وَإِنَّمَا يصحّ طلب الإسعاد فِي مثل هَذَا على أَن يبكي لبكائه ويرقّ لصديقه فِي شدّة برحائه.
فَأَما أَن يبكي على حبيب صديقه وعشيق رَفِيقه فَأمر محَال. فَإِن كَانَ الْمَطْلُوب وُقُوفه وبكاءه أَيْضا عَاشِقًا صحّ الْكَلَام وَفَسَد الْمَعْنى لِأَنَّهُ من السّخف أَن لايغار على حَبِيبه وَأَن يَدْعُو غَيره إِلَى التغازل عَلَيْهِ والتواجد مَعَه فِيهِ.
ثمَّ فِي الْبَيْتَيْنِ مَا لَا يُفِيد من ذكر هَذِه الْمَوَاضِع وَتَسْمِيَة هَذِه الْأَمَاكِن من الدّخول وحومل وتوضح والمقراة وَسقط اللّوى وَقد كَانَ يَكْفِيهِ أَن يذكر فِي التَّعْرِيف بعض هَذَا وَهَذَا التَّطْوِيل إِذا لم يفد كَانَ ضربا من العيّ.
ثمَّ إِن قَوْله: لم يعف رسمها ذكر الْأَصْمَعِي من محاسنه أَنه بَاقٍ فَنحْن نحزن على مشاهدته فَلَو عَفا لاسترحنا.
-
وَهَذَا بِأَن يكون من مساويه أولى لِأَنَّهُ إِن كَانَ صَادِق الودّ فَلَا يزِيدهُ عفاء الرسوم إلاّ جدّة عهد وشدّة وجد. وَإِنَّمَا فزع الْأَصْمَعِي إِلَى إِفَادَة هَذِه الْفَائِدَة خشيَة أَن يعاب عَلَيْهِ فَيُقَال: أَي فَائِدَة لِأَن يعرّفنا أَنه لم يعف رسم منَازِل