لأمرين: أحدهما أن قوله: كأنك في جفن الردى وهو نائم، تمثيل السلامة في مقام العطب، ولهذا قرر له الوقوف والبقاء في موضع يقطع على صاحبه فيه بالهلاك، أنسب من جعله مقررًا لثباته في حال هزيمة الأبطال. والثاني، أن في تأخير التتميم بقوله: ووجهك وضاح وثغرك باسم، عن وصف الممدوح بوقوفه ذلك الموقف، وبمرور أبطاله كلمى بين يديه، ما يفوت بالتقديم. ولعمري إن الضرب الثاني من ائتلاف المعنى مع المعنى أبدع من الضرب الأول، وأوقع في القلوب، وأقرب إلى مواقع الذوق، وعيه نظمت بيت بديعيتي ويأتي الكلام عليه في موضعه، ولكن هنا نكتة تزيد بديع الضرب الثاني إيضاحًا، وترشح قصد المتنبي في ترتيبه الذي تقدم عليه الكلام.

حكي أن سيف الدولة بن حمدان ممدوح المتنبي قال، عن إنشاده إياه هذين البيتين: يا أبا الطيب قد انتقدنا عليك، كما انتقد على امرئ القيس في قوله:

كأني لم أركب جوادًا لغارة ... ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال1

ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كرّي كرة بعد إجفال2

فقال المتنبي: أيها الأمير إن صح أن البزاز أعلم بالثوب من حائكه، فقد صح ما انتقد على امرئ القيس وعليّ، فإن امرأ القيس أحب أن يقرن الشجاعة باللذة في بيت واحد، وهو الأول، وقد وقع مثل هذا في الكتاب العزيز، وهو قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} 3 فإنه تعالى لم يراع فيه مناسبة الري بالشبع والاستظلال باللبس، في تحصيل نوع المنفعة، بل راعى مناسبة اللبس للشبع في حاجة الإنسان إليه وعدم استغنائه عنه، ومناسبة الاستظلال للري في كونهما تابعين اللبس والشبع.

قلت وأما جواب المتنبي عن قول امرئ القيس:

كأني لم أركب جوادًا لغارة ... ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال

فهو الافتنان بعينه، وهو نوع من أنواع البديع العالية، وقد تقدم.

وبيت الشيخ صفي الدين الحلي، في بديعيته على هذا النوع، قوله:

من مفرد بغرار السيف منتشر ... ومروج بسنان الرمح منتظم4

طور بواسطة نورين ميديا © 2015