قال ابن أبي الأصبع، لما أورد هذه الأبيات، واستشهد بها على النوع، في كتابه المسمى بـ "تحرير التحبير": إن هذا الشاعر عالم بمعرفة وضع الكلام في مواضعه، وما ذاك إلا أن قوافي الأبيات لو أطلقت لكانت مرفوعة، وأما بلاغته في الأبيات فإنه جعل التي عرفته وعرَّفت به وشبهته تشبيها يدل على شغلها به، هي الصغرى، ليظهر بدليل الالتزام أنه فتى السن إذ الفتية من النساء لا تميل إلا إلى الفتى من الرجال غالبًا، وختم قوله بما أخرجه مخرج المثل السائر موزونا، ولا يقال إنما مالت الصغرى إليه دون أختيها لضعف عقلها وقلة تجريبها، فإني أقول: إنه تخلص من هذا المدخل بكونه أخبر أن الكبرى التي هي أعقلهن، ما كانت رأته قبل ذلك، وإنما كانت تهواه على السماع، فلما رأته وعلمت أنه ذلك الموصوف لها، أظهرت من وجدها به على مقدار عقلها، ما أظهرت من سؤالها عنه، ولم تتجاوز ذلك وقنعت بالسؤال عنه، وقد علمته بلذة السؤال وبسماع اسمه، وأظهرت تجاهل العارف الذي موجبه شدة الوله، والعقل يمنعها من التصريح، وأما الوسطى فسارعت إلى تعريفه باسمه العلم فكانت دون الكبرى في الثبات، وأما الصغرى فمنزلتها في الثبات دون الأختين، لأنها أظهرت في معرفة وصفة ما دل على شدة شغفها به، فكل ذلك وإن لم يكن كذلك فألفاظ الشاعر تدل عليه. انتهى كلام ابن أبي الأصبع.
ومن جيد أمثلة هذا النوع قول أبي نواس:
قال لي يومًا سليما ... ن وبعض القول أشنع1
قال صفني وعليا ... أينا أبقى وأنفع
قلت إني إن أقل ما ... فيكما بالحق تجزع
قال كلا قلت مهلا ... قال قل لي قلت فاسمع
قال صفه قلت يعطي ... قال صفني قلت تمنع
ومثله قول البحتري:
بت أسقيه صفوة الراح حتى ... وضع الرأس مائلا يتكفا2
قلت عبد العزيز تفديك نفسي ... قال لبيك قلت لبيك ألفا
هاكها قال هاتها قلت خذها ... قال لا أستطيعها ثم أغفى3