فأبعده لأجل هذا البيت فكتب إلى الأفضل أبياتاً منها:
مثلي بمصرٍ وأنت مَلْكٌ ... يقالُ ذا شاعرٌ فقيرُ
عطاؤك الشمسُ ليس تخفى ... وإنما حظِّيَ الضريرُ
وأنشدني له في العذر عن العربدة من أبيات:
ركبتُ كميتَ الراح وهي جماحُهَا ... شديدٌ ومالي بالتَفَرُّس من خُبْرِ
وألقيتُ ما بين الندامى عِنانَها ... فجالتْ وأَلقَتْني على وَعِرِ السُّكْر
وإن بساطَ السكر يُطْوى كما جرى ... به الرسمُ فيما قيل بالسكر في العُذْر
قال: وكنت جالساً معه على دكان أبي عبد الله الكتبي بمصر فمر بنا غلام في ثوب أزرق، فقيل له: أنشدنا في هذا شيئاً، فقال بديهاًز
مرَّ بنا في ثوبهِ الأزرق ... كبدرِ تِمٍ لاح في المَشْرِقِ
لا بارك الرحمنُ فِيمَنْ رأى ... حُسْنَ عِذَارَيْه ولم يَعْشَقِ
قال: وله من أبيات:
رَقَّتْ معاقدُ خصرِهِ فكأنّها ... مُشْتَقَّةٌ من تِيهه وتَجَلُّدِي
وتَجَعَّدَتْ أَصداغُه فكأنها ... مسروقةٌ من خلقه المتجعدِ
وتأودت أعطافهُ والبانةُ السمراءُ ... لا تُرْدِيكَ دونَ تأَوُّد
ما باله يجفو وقد زَعَمَ الورى ... أنَّ النَّدَى يختصُّ بالوجهِ النَّدِي
لا تخدعنَّكَ وَجْنَةٌ محمرّةٌ ... رَقَّتْ ففي الياقوتِ طَبْعُ الجلمدِ
ووجدت هذه الأبيات في رسالة أبي الصلت الحكيم، ومن هذا المعنى أخذ أبو الحسين بن منير حيث يقول:
خُدَعُ الخدودِ تلوحُ تحت صفائها ... فحَذَارِها إنْ مُوِّهَت بحَيَائها
تلك الحبائلُ للنفوسِ وإنما ... قَطْعُ الصوارمِ تحت رَوْنَقِ مائها
وهذا أخذٌ مليحٌ خفيٌ.
ثم قرأت بعد ذلك في رسالة لأبي الصلت الحكيم يصف مصر قال: ومن شعرائها المشهورين أبو طاهر اسماعيل بن محمد المعروف بابن مكنسة وهو شاعرٌ مكثر التصرف، قليل التكلف، يفتن في نوعي جد القريض وهزله، وضاربٌ بسهمٍ في رقيقه وجزله، وكان في ريعان شبيبته وعنفوان حداثته يعشق غلاماً من أبناء عسكرية المصريين يدعى عز الدولة وهو الآن بمصر من رجال دولتها المعدودين وأكابرها المتقدمين، ولم يزل مقيماً على عشقه له وغرامه به إلى أن محا محاسنه الشعر، وغير معالمه الدهر، وكان في أيام أمير الجيوش بدر الجمالي منقطعاً إلى عامل من النصارى يعرف بأبي مليح وأكثر أشعاره فيه، فلما انتقل الأمر إلى الأفضل تعرض لامتداحه واستماحته، فلم يقبله ولم يقبل عليه، وكان سبب حرمانه ما سبق من مدائحه لأبي مليح ومراثيه ميتاً لاسيما قوله:
طُوِيَتْ سماءُ المكرما ... تِ وكُوِّرَتْ شمسُ المديحِ
من أبيات منها:
ماذا أُرَجِّي في حيا ... تي بعد موتِ أبي مَليحِ
ما كان بالنِّكْسِ الدّنيِّ ... من الرجالِ ولا الشحيحِ
كَفَرَ النصارى بعد ما ... عَقَدُوا به دينَ المسيح
وكفله عز الدولة بن فائق وقام بحاله إلى أن مات.
ومما أورده أبو الصلت من شعره وذكرته بلفظه، قال أبو الطاهر بن مكنسة من قصيدة:
أَعاذِلُ ما هَبَّتْ رياحُ مَلامةٍ ... بنار هوًى إلاّ وزادتْ تضرُّما
فكِلْني إلى عينٍ إذا جفَّ ماؤها ... رأَتْ من حقوقِ الحُبِّ أنْ تَذْرِفَ الدما
فكم عبرةٍ أَعْطَتْ غرامي زِمامَها ... عَشِيَّةَ أَعْمَلْنَ المطيَّ المُزَمَّمَا
وعينٍ حماها أن يُلِمَّ بها الكرى ... أَحاديثُ أيامٍ تقضَّيْنَ بالحمى
فللهِ قلبٌ قارَعَتْهُ هُمُومُهُ ... فلم يَبْقَ حَدٌّ منه إلاَّ تَثَلَّما
وله من قصيدة:
وعسكريٍ أبداً حيثما ... تلقاهُ يلقاك بكلِّ السلاحْ
حاجبُهُ قَوْسٌ وأَجفانُهُ ... نَبْلٌ وعطفاه تَثَنِّي الرماحْ
رَاحَ وَفِعْلُ الراح فيه كما ... يَفْعلُ بالغصنِ نسيمُ الرياح
أغار في هذا البيت على خالد الكاتب في قوله: