الراهب رأى فيه أمارات النبوّة على ما تدلّه أنباء النّصرانية. وتذهب بعض الروايات إلى أن الراهب نصح إلى أهله ألّا يوغلوا به في بلاد الشام خوفا عليه من اليهود أن يعرفوا منه هذه الأمارات فينالوه بالأذى.
في هذه الرّحلة وقعت عينا محمد الجميلتان على فسحة الصحراء، وتعلقتا بالنجوم اللامعة في سمائها الصافية البديعة. وجعل يمرّ بمدين ووادي القرى وديار ثمود وتستمع أذناه المرهفتان إلى حديث العرب وأهل البادية عن هذه المنازل وأخبارها وماضي نبئها. وفي هذه الرحلة وقف من بلاد الشام عند الحدائق الغنّاء اليانعة التي أنسته حدائق الطائف وما يروى عنها، والتي تبدّت له جنات إلى جانب جدب الصحراء المقفرة والجبال الجرداء فيما حول مكة. وفي الشام كذلك عرف محمد أخبار الروح ونصرانيتهم، وسمع عن كتابهم وعن مناوأة الفرس من عبّاد النار لهم وانتظارهم الوقيعة بهم. ولئن كان بعد في الثانية عشرة من سنه لقد كان له من عظمة الروح وذكاء القلب ورجحان العقل ودقة الملاحظة وقوّة الذاكرة وما إلى ذلك من صفات حباه القدر بها تمهيدا للرسالة العظيمة التي أعدّه لها ما جعله ينظر إلى ما حوله نظرة الفاحص المحقق، فلا يستريح إلى كل ما يسمع ويرى، فيرجع إلى نفسه يسائلها: أين الحقّ من ذلك كله؟
والراجح أن أبا طالب لم يفد مالا كثيرا من رحلته تلك، فلم يعد من بعد إلى رحلة مثلها، بل قنع بحظه، وأقام بمكة يكفل في حدود ماله القليل أولاده الكثيرين. وأقام محمد مع عمه قانعا بنصيبه، يقوم من الأمر بما يقوم به من هم في مثل سنّه. فإذا جاءت الأشهر الحرم ظلّ بمكة مع أهله، أو خرج وإيّاهم إلى الأسواق المجاورة لها بعكاظ ومجنة وذي المجاز يستمع لإنشاد أصحاب المذهبّات والمعلّقات، وتلتهم أذناه بلاغتهم في غزلهم وفخرهم وذكرهم أنسابهم ومغازيهم وكرمهم وفضلهم، ثم يعرض ذلك على بصيرته تلفظ منه ما لا تسيغ وتعجب بما تراه جديرا بالإعجاب. ويستمع إلى خطب الخطباء ومن بينهم اليهود والنصارى الذين كانوا ينقمون من إخوانهم العرب وثنيّتهم، ويحدّثونهم عن كتب عيسى وموسى، ويدعونهم إلى ما يعتقدونه الحق؛ ويزن ذلك بميزان قلبه فيراه خيرا من هذه الوثنية التي غرق فيها أهله، ولكنه لا يطمئن كل الطمأنينة إليه. وكذلك جعل القدر يوجه نفسه منذ نعومة أظفاره الوجهة التي تهيئه لذلك اليوم العظيم، يوم الوحي الأوّل حين دعاه ربه لتبليغ رسالته: رسالة الهدى والحق للناس كافّة.
وكما عرف محمد طرق القوافل في الصحراء مع عمه أبي طالب، وكما استمع إلى الشعراء والخطباء مع ذويه في الأسواق حول مكة أثناء الأشهر الحرم، عرف كذلك حمل السلاح؛ إذ وقف إلى جانب أعمامه في حرب الفجار. وحرب الفجار تلك كانت بعض ما يثور ويتصل بين قبائل العرب من الحروب. وقد سميت الفجار لأنها وقعت في الأشهر الحرم، إذ تمتنع قبائل العرب عن القتال ويعقدون أسواق تجارتهم بعكاظ بين الطائف ونخلة وبمجنّة وذي المجاز على مقربة من عرفات، لتبادل التجارة وللتفاخر والجدل، وللحج بعد ذلك عند أصنامهم بالكعبة. وكانت سوق عكاظ أكثر أسواق العرب شهرة، فيها أنشد أصحاب المعلّقات معلقاتهم، وفيها خطب قسّ، وفيها كان اليهود والنصارى وعبّاد الأصنام يحدّث كل عن رأيه آمنا، لأنه في الشهر الحرام.
على أن البرّاض بن قيس الكنانيّ لم يحترم هذه الحرمة حين غافل أثناءها عروة الرّحال بن عتبة الهوازنيّ وقتله.. وسبب ذلك أن النعمان بن المنذر كان يبعث كل عام قافلة من الحيرة إلى عكاظ تحمل المسك وتجيء بديلا منه بالجلود والحبال وأنسجة اليمن المزركشة. فعرض البّراض الكناني نفسه عليه ليقود القافلة في حماية