والمكان الذي دفن به؛ فكان ذلك أوّل معنى لليتم انطبع في نفس الصبي. ولعل أمّه حدّثته طويلا عن هذا الأب المحبوب الذي غادرها بعد مقامه معها أياما معدودة ليجيئه بين أخواله أجله، فقد كان النبيّ بعد هجرته إلى المدينة يقصّ على أصحابه حديث تلك الرحلة الأولى إلى المدينة مع أمه، حديث محبّ للمدينة محزون لمن تحوي القبور من أهله بها. ولما تمّ مكثهم بيثرب شهرا اعتزمت آمنة العودة، فركبت وركب من معها بعيريهما اللذين حملاهما من مكة. فلما كانوا في أثناء الطريق بين البلدين مرضت آمنة بالأبواء (?) وماتت ودفنت بها، وعادت أمّ أيمن بالطفل إلى مكة منتحبا وحيدا، يشعر بيتم ضاعفه عليه القدر فيزداد وحشة وألما. لقد كان منذ أيام يسمع من أمه أنّات الألم لفقد أبيه وهو ما يزال جنينا، وها هو ذا قد رأى بعينيه أمّه تذهب كما ذهب أبوه وتدع جسمه الصغير يحمل همّ اليتم كاملا.
زاد ذلك في إعزاز عبد المطّلب إيّاه. مع ذلك بقيت ذكرى اليتم أليمة عميقة في نفسه، حتى وردت في القرآن إذ يذكر الله نبيه بالنعمة عليه فيقول. (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (?) .
ولعل جوى هذه الذكرى كان يخفّ بعض الشيء لو أن عبد المطلب عمّر أكثر مما عمر، لكنه مات في الثمانين من عمره ومحمد ما يزال في الثامنة. وحزن محمد لموت جدّه حزنه لموت أمه. حزن حتى كان دائم البكاء وهو يتبع نعشه إلى مقرّه الأخير، وحتى كان دائم الذكر من بعد ذلك له، مع ما لقي من بعد في كفالة عمه أبي طالب من عناية ورعاية، ومن حماية امتدّت إلى ما بعد بعثه ورسالته، ودامت إلى أن مات عمه.
والحق أنّ موت عبد المطلب كان على بني هاشم جميعا ضربة قاسية؛ فإنه لم يكن من أبنائه من كان في مثل مكانته عزما وقوّة أيد وأصالة رأي وكرما وأثرا في العرب جميعا. ألم يكن يطعم الحاجّ ويسقيهم ويبرّ أهل مكة جميعا إذا أصابهم شرّ أو أذى! وها هم أولاء أبناؤه لم يصل أحد منهم إلى مكانته، إذ كان فقيرهم عاجزا عن مثل عمله، وكان غنيّهم حريصا على ماله. لذلك ما لبث بنو أمية أن تهيؤا ليأخذوا المكانة التي طمعوا فيها من قبل دون أن يخشوا من بني هاشم مزاحمة تخيفهم.
في كفالة عمه أبي طالب
آلت كفالة محمد إلى أبي طالب وإن لم يكن أكبر إخوته سنّا؛ فقد كان الحارث أسنّهم، وإن لم يكن أكثرهم يسارا. وكان العبّاس أكثرهم مالا، لكنه كان على ماله حريصا؛ لذلك احتفظ بالسقاية وحدها دون الرّفادة.
فلا عجب أن كان أبو طالب على فقره أنبلهم وأكرمهم في قريش مكانة واحتراما، ولا عجب أن عهد إليه المطلب بكفالة محمد من بعده.
وقد أحبّ أبو طالب ابن أخيه كحب عبد المطّلب له. أحبّه حتى كان يقدّمه على أبنائه، وكان يجد فيه من النجابة والذكاء والبرّ وطيب النفس ما يزيده به تعلقا: ولقد أراد أن يخرج يوما في تجارة له إلى الشام حين كان محمد في الثانية عشرة من عمره؛ ولم يفكر في اصطحابه خوفا عليه من وعثاء السفر واجتياز الصحراء.
لكن محمدا أبدى من صادق الرغبة في مصاحبة عمه ما قضى على كل تردّد في نفس أبي طالب. وصحب الغلام القافلة حتى بلغ بصرى في جنوب الشام، وتروي كتب السيرة أنه التقى في هذه الرحلة بالراهب بحيرى، وأن