قبيلته كنانة؛ وعرض عروة الهوازنيّ نفسه كذلك وأن يتخطّى إلى الحجاز طريق نجد. واختار النعمان عروة؛ فأحفظ ذلك البّراض فتبعه وغاله وأخذ قافلته. ثم أخبر البرّاض بشرا بن أبي خازم أنّ هوازن ستأخذ بثأرها من قريش. ولحقت هوازن بقريش قبل أن يدخلوا البيت الحرام فاقتتلوا، وتراجعت قريش حتى لاذت من المنتصرين بالحرم، فأنذرتهم هوازن الحرب بعكاظ العام المقبل. وقد ظلّت هذه الحرب تنشب بين الفريقين أربع سنوات متتابعة انتهت بعدها إلى صلح من نوع صلح البادية ذلك بأن يدفع من كانوا أقلّ قتلى دية العدد الزائد على قتلاهم من الفريق الآخر. ودفعت قريش دية عشرين رجلا من هوازن، وذهب البراض مثلا في الشقاوة.
لم يحقّق التاريخ سنّ محمد أيام حرب الفجار؛ فقيل كان ابن خمس عشرة سنة؛ وقيل: كان ابن عشرين. ولعل سبب الخلاف أن هذه الحرب استطالت أربع سنوات تجعل حاضر أوّلها وهو في الخامسة عشرة يلحق آخرها في جوار العشرين.
وقد اختلف فيما قام به محمد من عمل في هذه الحرب. فقال أناس: إنه كان يجمع السهام التي تقع من هوازن ويدفعها إلى أعمامه ليردّوها إلى صدور خصومهم، وقال آخرون: بل اشترك فيها ورمى السهام بنفسه. وما دامت الحرب المذكورة قد امتدّت فتراتها في سنوات أربع، فليس ما يمنع صحة الروايتين؛ فيكون قد جمع السهام لأعمامه أولى الأمر ورمى من بعد ذلك. وقد ذكر رسول الله الفجار بعد سنوات من رسالته فقال: «قد حضرته مع عمومتي ورميت فيه بأسهم، وما أحبّ أني لم أكن فعلت» .
وقد شعرت قريش بعد الفجار بأن ما أصابها وما أصاب مكة جميعا بعد موت هاشم وموت عبد المطّلب من تفرّق الكلمة وحرص كل فريق على أن يكون صاحب الأمر، قد أطمع فيها العرب بعد ما كانت أمنع من أن يطمع فيها طامع. إذ ذاك دعا الزّبير بن عبد المطّلب، فاجتمعت بنو هاشم، وزهرة، وتيم، في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعاما، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله المنتقم ليكونن مع المظلوم حتى يؤدّى إليه حقه ما بل بحر صوفة. وقد حضر محمد هذا الحلف الذي سمّاه العرب حلف الفضول؛ وكان يقول: «ما أحبّ أنّ لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النّعم ولو دعيت به لأجبت» .
لم تكن حرب الفجار، كما رأيت، تستغرق إلا أياما من كل عام؛ أمّا سائر العام فكان العرب يرجعون فيه إلى أعمالهم يزاولونها دون أن تترك الحرب في نفوسهم من المرارة ما يحول بينهم وبين التجارة والربا والشراب والتسرّي والأخذ من مختلف ألوان اللهو بأوفر نصيب. أفكان محمد يشاركهم في هذا؟ أم كانت رقّة حاله وضيق ذات يده وكفالة عمه إيّاه تجعله بمنأى عنها ينظر إلى التّرف نظرة المحروم والمشتهي؟ أمّا أنه نأى عنها فذلك ما يشهد به التاريخ. لكنه لم ينأ عنها عجزا عن النيل منها؛ فقد كان الخلعاء المقيمون بأطراف مكة والذين لا يجدون من أسباب الرزق إلا الصنك والإملاق يجدون الوسيلة إليها، بل كان بعضهم أشدّ من أمجاد مكة وأشراف قريش إمعانا فيها وإدمانا لها. إنما كانت نفس محمد مشغوفة بأن ترى وأن تسمع وأن تعرف.
وكأن حرمانه من التعلم الذي يتعلّمه بعض أنداده من أبناء الأشراف جعله أشدّ للمعرفة تشوقا، وبها تعلّقا؛ كما أن النفس العظيمة التي تجلّت من بعد آثارها وما زال يغمز العالم ضياؤها، كانت في توقها إلى الكمال ترغب عن هذا اللهو الذي يصبو إليه أهل مكة، إلى نور الحياة المتجلي في كل مظاهر الحياة لمن هداه الحقّ إليها، ولاكتناه ما تدلّ هذه المظاهر عليه وما تحدّث الموهوبين به. ولذلك ظهر منذ الصّبا الأوّل مظهر الكمال والرجوليّة وأمانة النفس، حتّى دعاه أهل مكة جميعا: «الأمين» .