قد وقع وسنّه سنتان ونصف سنة، ورجعت حليمة وزوجها إذ ذاك به إلى أمه، لكان في الروايتين تناقض غير مقبول. ولذلك يرى بعض الكتّاب أنه عاد مع حليمة مرة ثالثة. ولا يرضى المستشرق سير وليم موير أن يشير إلى قصة الرجلين في ثيابهما البيضاء ويذكر أنه إن كانت حليمة وزوجها قد نبها لشيء أصاب الطفل فلعله نوبة عصبية أصابته، ولم يكن لها أن تؤذي صحته لحسن تكوينه. ولعل آخرين يقولون: إنه لم يكن في حاجة إلى من يشقّ بطنه أو صدره ما دام الله قد أعده من يوم خلقه لتلقي رسالته. ويرى در منجم أن هذه القصة لا تستند إلى شيء غير ما يفهم من ظاهر الآيات: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) (?) وأن ما يشير القرآن إليه إنما هو عمل روحيّ بحت، والغاية منه تطهير هذا القلب وتنظيفه ليتلقى الرسالة القدسية خالصا ويؤدّيها مخلصا تمام الإخلاص محتملا عبء الرسالة المضني.

وإنما يدعو المستشرقين ويدعو المفكرين من المسلمين إلى هذا الموقف من ذلك الحديث أن حياة محمد كانت كلها إنسانية سامية، وأنه لم يلجأ في إثبات رسالته إلى ما لجأ إليه من سبقه من أصحاب الخوارق. وهم في هذا يجدون من المؤرخين العرب والمسلمين سندا حين ينكرون من حياة النبي العربيّ كل ما لا يدخل في معروف العقل، ويرون ما ورد من ذلك غير متفق مع ما دعا القرآن إليه من النظر في خلق الله، وأن سنّة الله لن تجد لها تبديلا، غير متفق مع تعبير القرآن للمشركين أنهم لا يفقهون أن ليست لهم قلوب يعقلون بها.

محمد في البادية

وأقام محمد في بني سعد إلى الخامسة من عمره ينهل من جو الصحراء الطلق روح الحرّية والاستقلال النفسيّ، ويتعلّم من هذه القبيلة لغة العرب مصفّاة أحسن التصفية، حتى لقد كان يقول من بعد لأصحابه:

«أنا أعربكم، أنا قرشيّ واسترضعت في بني سعد بن بكر» . وتركت هذه السنوات الخمس في نفسه أجمل الأثر وأبقاه، كما بقيت حليمة وبقي أهلها موضع محبّته وإكرامه طوال حياته. أصابت الناس سنة (?) بعد زواج محمد من خديجة؛ فجاءته حليمة فعادت من عنده ومعها من مال خديجة بعير يحمل الماء وأربعون رأسا من الغنم.

وكانت كلما أقبلت عليه مدّ لها طرف ردائه لتجلس عليه سيما الاحترام. وكانت الشيماء ابنتها بين من أسر مع بني هوازن بعد حصار الطائف، فلما جيء بها إلى محمد عرفها وأكرمها وردّها إلى أهلها كما رغبت.

في كفالة جده عبد المطلب

وعاد إلى أمّه بعد هذه السنوات الخمس. ويقال: إن حليمة التمسته وهي مقبلة به على أهله فلم تجده؛ فأتت عبد المطلب فأخبرته أنه ضلّ منها بأعلى مكة. فبعث من يبحث عنه حتى ردّه عليه ورقة بن نوفل فيما يروون. وكفل عبد المطّلب حفيده، وأغدق عليه، كل حبّه وأسبغ عليه جمّ رعايته. كان يوضع لهذا الشيخ، سيد قريش وسيد مكة كلها، فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول ذلك الفراش إجلالا لأبيهم، فإذا جاء محمد أدناه عبد المطلب منه وأجلسه على الفراش معه وربت على ظهره، وأبدى من آيات عطفه ما يمنع أعمام محمد من تأخيره إلى حيث يجلسون.

اليتم

وزاد في إعزاز الجدّ لحفيده أنّ آمنة خرجت بابنها إلى المدينة لتري الغلام فيها أخوال جدّه من بني النجّار، وأخذت معها أمّ أيمن الجارية التي خلّفها عبد الله من بعده. فلما كانوا بها أرت الغلام البيت الذي مات أبوه فيه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015