وجاءت مراضع بني سعد إلى مكة يلتمس الأطفال لإرضاعهم. وكنّ يعرضن عن اليتامى لأنهن كنّ يرتجين البرّ من الآباء. أمّا الأيامى فكان الرجاء فيهن قليلا؛ لذلك لم تقبل واحدة من أولئك المراضع على محمد، وذهبت كلّ بمن ترجو من أهله وافر الخير.
على أن حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية التي أعرضت عن محمد أوّل الأمر كما أعرض عنه غيرها لم تجد من تدفع إليها طفلها؛ ذلك أنها كانت على جانب من ضعف الحال صرف الأمهات عنها. فلما أجمع القوم على الانطلاق عن مكة قالت حليمة لزوجها الحارث بن عبد العزّى: والله إني لأكره أن أرجع مع صواحبي ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم ولآخذنه! وأجابها زوجها: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. وأخذت حليمة محمدا وانطلقت به مع قومها إلى البادية. وكانت تحدّث أنها وجدت فيه منذ أخذته أيّ بركة: سمنت غنمها وزاد لبنها، وبارك الله لها في كل ما عندها.
وأقام محمد في الصحراء سنتين ترضعه حليمة وتحضنه ابنتها الشّيماء؛ ويجد هو في هواء الصحراء وخشونة عيش البادية ما يسرع به إلى النموّ ويزيد في وسامة خلقه وحسن تكوينه. فلما أتمّ سنتيه وآن فصاله ذهبت به حليمة إلى أمه ثم عادت به إلى البادية، رغبة من أمه، في رواية، ومن حليمة في رواية أخرى؛ عادت به حتى يغلظ، وخوفا عليه من وباء مكة. وأقام الطفل بالصحراء سنتين أخريين يمرح في جوّ باديتها الصحو الطلق لا يعرف قيدا من قيود الروح ولا من قيود المادة.
في هذه الفترة وقبل أن يبلغ الثالثة تقع الرواية التي يقصونها من أنه كان مع أخيه الطفل من سنّه في بهم لأهله خلف بيوتهم؛ إذ عاد أخوه الطفل السعديّ يعدو ويقول لأبيه وأمه: ذلك أخي القرشيّ قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه، فهما يسوطانه (?) . ويروى عن حليمة أنها قالت عن نفسها وزوجها.
«فخرجت أنا وأبوه نحوه، فوجدناه قائما ممتقعا وجهه، فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا له: مالك يا بنيّ؟ قال:
جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني فشقّا بطني فالتمسا فيه شيئا لم أدر ما هو» . ورجعت حليمة ورجع أبوه إلى خبائهما. وخشي الرجل أن يكون الغلام أصابته الجن. فاحتملاه إلى أمه بمكة. ويروي ابن إسحاق في هذه الواقعة حديثا عن النبيّ بعد بعثه. لكن ابن إسحاق يحتاط بعد أن يقص هذه القصة ويذكر أن السبب في ردّه إلى أمه لم يكن حكاية الملكين وإنما كان، على ما روته حليمة لآمنة، أنّ نفرا من نصارى الحبشة رأوه معها حين رجعت به بعد فطامه، فنظروا إليه وسألوها عنه وقلّبوه ثم قالوا: لنأخذن هذا الغلام فلنذهب به إلى ملكنا وبلدنا؛ فإن هذا غلام كائن له شأن نحن نعرف أمره؛ ولم تكد حليمة تنفلت به منهم. وكذلك يرويها الطبري، لكنه يحيطها بالريبة؛ إذ يذكرها في هذه السنة من حياة محمد، ثم يعود فيذكر أنها وقعت قبيل البعث وسنّه أربعون سنة.
لا يطمئن المستشرقون ولا يطمئن جماعة من المسلمين كذلك إلى قصة الملكين هذه ويرونها ضعيفة السند. فالذي رأى الرجلين في رواية كتّاب السيرة إنما هو طفل لا يزيد على سنتين إلا قليلا، وكانت كذلك سن محمد يومئذ. والروايات تجمع على أن محمدا أقام ببني سعد إلى الخامسة من عمره. فلو كان هذا الحادث