ولقد كانت للعرب في عبادة الأوثان أفانين شتّى يصعب على باحث اليوم أن يحيط بها. فقد حطّم النبي الأصنام وأمر أصحابه بتحطيمها حيثما ثقفوها؛ وتناهى المسلمون عن التحدّث عنها بعد أن عفّوا على آثارها وأزالوا من الوجود في التاريخ وفي الأدب كل ما يتصل بها. على أن ما ورد من ذكرها في القرآن وما تناقلته في القرن الثاني للهجرة عنها، بعد إذ أمن المسلمون فتنتها، ينبئ عما كان لها قبل الإسلام من جليل المكانة وما كانت عليه من مختلف الصور، ويدلّ على أنها كانت تتفاوت في درجات التقديس. وقد كان لكل قبيلة صنم تدين له بالعبادة. وكانت هذه المعبودات الجاهلية تختلف ما بين الصنم والوثن والنصب؛ فالصنم ما كان على شكل الإنسان من معدن أو خشب. والوثن ما كان على شكله من حجر. أمّا النصب فصخرة ليست لها صورة معينة، تجري عليها قبيلة من القبائل أوضاع العبادة، لما تزعمه من أصلها السماويّ أن كانت حجرا بركانيّا أو ما يشبهه. ولعلّ أدقّ الأصنام صنعا ما كان لأهل اليمن. ولا عجب فحظهم من الحضارة لم يعرفه أهل الحجاز ولا عرفه أهل نجد وكندة. على أن كتب الأصنام لا تشير بالدقة إلى شيء من صور هذه الأصنام إلا ما قيل عن هبل من أنه كان من العقيق على صورة الإنسان، وأن ذراعه كسرت فأبدله القرشيون منها ذراعا من ذهب.
وهبل كان كبير آلهة العرب وساكن الكعبة بمكة، فكان الناس يحجون إليه من كل فجّ عميق.
ولم يكن العرب ليكتفوا بهذه الأصنام الكبرى يقدّمون إليها صلواتهم وقرابينهم، بل كان أكثرهم يتخذ له صنما أو نصبا في بيته، يطوف به حين خروجه وساعة أوبته؛ ويأخذه معه عند سفره إذا أذن له هذا الصنم في السفر.
وهذه الأصنام جميعا، سواء منها ما كان بالكعبة أو حولها وما كان في مختلف جهات بلاد العرب وبين مختلف قبائلها، كانت تعتبر الوسيط بين عبادها وبين الإله الأكبر. وكان العرب لذلك يعترون عبادتهم إياها زلفى يتقربون بها إلى الله وإن كانوا قد نسوا عبادة الله لعبادتهم هذه الأصنام.
ومع أن اليمن كانت أرقى بلاد شبه الجزيرة كلها حضارة بسبب خصبها وحسن تنظيم انحدار المياه إلى أرضها، لم تكن مع ذلك مطمح النظر لأهل هذه البلاد الصحراوية المترامية الأطراف، ولم يكن إلى معابدها حجهم؛ وإنما كانت مكة وكانت كعبتها بيت إسماعيل مثابة الحاجّ، إليها كانت تشدّ الرجال وتشخص الأبصار، وفيها أكثر من كل جهة سواها كانت ترعى الأشهر الحرم. لذلك ولمركزها الممتاز في تجارة العرب كلها، كانت تعتبر عاصمة شبه الجزيرة. ثم أراد القدر من بعد أن تكون مسقط رأس محمد النبي العربي، فتكون بذلك متّجه نظر العالم على توالي القرون، ويظلّ لبيتها العتيق تقديسه، وتبقى لقريش فيها المكانة السامية، وإن ظلّت وظلوا جميعا أدنى إلى خشونة البداوة التي كانوا عليها منذ عشرات القرون.