جاليات كبيرة يقيم أكثرها في اليمن وفي يثرب. ثم كانت مجوسية الفرس تقف في وجه القوّات المسيحية حتى لا تعبر الفرات إلى فارس، وتؤيّد بقوّتها المعنوية أوضاع الوثنية حيثما وجدت الوثنية. وكان سقوط رومية وزوال سلطانها بعد انتقال عاصمة حضارة العالم إلى بزنطية وما تلا ذلك من بوادر التحلّل، قد أكثر الشّيع في المسيحية كثرة جعلتها- كما قدّمنا- تتناحر وتقتتل وتهوي من عليا مراتب الإيمان إلى الجدل في الصور والألفاظ وفي مبلغ قدس مريم وتقدّمها على ابنها المسيح أو تقدّمه عليها، جدلا هو النذير أنّى وجد بتدهور ما يجري في شأنه وما يحتدم من أجله؛ ذلك بأنه يذر اللب ويأخذ بالقشور، ويظل يكدّس من هذه القشور فوق اللب ما يخيفه وما يجعل من المحال على الناس إدراكه أو اختراق حجب القشور إليه.
وقد كان ما يحتدم جدل نصارى الشام حوله غير ما يحتدم جدل أهل الحيرة أو أهل الحبشة حوله. ولم يكن اليهود بطبيعة صلتهم بالنصارى ليعلموا على تهدئة هذا الجدل أو التسكين من حدته. لذلك كان طبيعيّا أن يظل العرب الذين يتصلون بنصارى الشام وبنصارى اليمن في رحلتي الشتاء والصيف وبمن يفدون عليهم من نصارى الحبشة بعيدين عن أن ينتصروا لفريق على فريق مطمئنين إلى وثنيتهم التي ولدوا فيها وتابعوا آباءهم عليها.
ولذلك ظلّت عبادة الأصنام مزدهرة عندهم، حتى امتدّ شيء من أثرها إلى جيرانهم نصارى نجران ويهود يثرب الذين تسامحوا في أمرها ثم احتملوها ثم اطمأنوا إليها، أن كانت من صلات التجارة الحسنة بينهم وبين هؤلاء العرب الذين يعبدونها لتقرّ بهم إلى الله زلفى.
ولعل تناحر الفرق المسيحية لم يكن وحده السبب في إصرار العرب على وثنيتهم؛ فقد كانت الوثنيات المختلفة ما تزال لها بقايا في الأمم التي انتشرت المسيحية فيها. كانت الوثنية المصرية والوثنية الإغريقية ما تزالان تتبدّيان من خلال المذاهب المختلفة، ومن خلال بعض المذاهب المسيحية نفسها، وكانت مدرسة الإسكندرية وفلسفتها ما تزال ذات أثر، إن يكن أقلّ كثيرا مما كان في عهد البطالسة وفي أوّل العهد المسيحي، فقد كان على كل حال ما يزال متغلغلا في النفوس، وما يزال منطقة البّراق المظهر، وإن يكن سفسطائي الجوهر، يغري الوثنية المتعددة الآلهة، القريبة بالهتها إلى سلطان الإنسان، المحبّبة لذلك إليه. وأكبر ظني أن هذا هو ما يشدّ النفوس الضعيفة إلى الحرص على الوثنية في كل الأزمان، وفي زماننا هذا. فالنفوس الضعيفة أعجز من أن تسمو حتى تتصل بالوجود كله كيما تدرك وحدته ممثلة فيما هو أسمى من كل ما في الوجود، ممثّلة في الله ذي الجلال. وهي لذلك تقف عند مظهر من مظاهر هذا الوجود كالشمس أو كالقمر أو كالنار، ثم تضعف عن السمو إلى تصوّر ما يدلّ هذا المظهر عليه من وحدة الوجود.
هذه النفوس الضعيفة تكتفي بوثن يتمثّل لها في معنى مبهم وضيع من الوجود ووحدته، فتتصل بهذا الوثن وتخلع عليه من صور التقديس ما لا نزال نراه في بلاد العالم جميعا، مع ما يزعم هذا العالم من تقدّم في العلم وسمو في الحضارة. من ذلك ما يراه الذين يزورون كنيسة القدّيس بطرس في رومية؛ فهم يرون قدم التمثال المقام بها للقدّيس تبريها قبلات عباده المؤمنين، ثم تضطر الكنيسة إلى تغييرها كلما انبرت. وما نحسبنا ونحن نرى ذلك إلّا نلتمس العذر لأولئك الذين لمّا يكن الله قد هداهم إلى الإيمان، والذين كانوا يرون تناحر جيرانهم النصارى وبقاء أوضاع الوثنية بينهم، حين يقيمون على عبادة الأوثان التي كان يعبد آباؤهم. وكيف لا نعذرهم وهذه الأوضاع متأصلة في العالم باقية بقاء لم ينقطع حتى اليوم وما أحسبه ينقطع أبدا، بقاء يفسر هذه الوثنية التي يرتضيها المسلمون اليوم في دينهم، وهو الذي جاء حربا على الوثنية، وهو الذي قضى على كل عبادة غير عبادة الله ذي الجلال.