حلف لها أن مارية عليه حرام إذا هي لم تذكر مما رأت شيئا. ووعدته حفصة أن تفعل. لكن الغيرة أكلت صدرها فلم تطق كتمان ما به، فأسّرته إلى عائشة. وأومأت هذه إلى النبيّ بما رأى منه أن حفصة لم تصن سرّه. ولعل الأمر لم يقف عند حفصة وعائشة من أزواج النبيّ. ولعلهن جميعا وقد رأين ما رفع النبي من مكانة مارية قد تابعن عائشة وحفصة حين ظاهرتا على النبيّ على أثر قصة مارية هذه، وإن تكن لذاتها قصة لا شيء فيها أكثر مما يقع بين رجل وزوجه، أو بين رجل وما ملكت يمينه، مما هو حل له ومما لا موضع فيه لهذه الضجة التي أثارتها ابنتا أبي بكر وعمر محاولتين أن تقتصا لذاتيهما من ميل النبيّ لمارية. وقد رأينا أن شيئا من الجفوة وقع بين النبي وأزواجه في أوقات مختلفة بسبب النفقة، أو بسبب عسل زينب، أو لغير ذلك من الأسباب التي تدل على أن أزواج النبي كن يجدن عليه أن يكون لعائشة أحب، أو أن يكون لمارية أهوى.
وبلغ من أمرهن أن أوفدن إليه يوما زينب بنت جحش وهو عند عائشة تصارحه بأنه لا يعدل بين نسائه، وأنه لحبه لعائشة يظلمهن. ألم يجعل لكل امرأة يوما وليلة! ثم رأت سودة انصراف النبي عنها وعدم بشاشته لها، فوهبت يومها وليلتها لعائشة إرضاء للرسول. ولم تقف زينب من سفارتها عند الكلام في ميل النبي عن العدل بين نسائه؛ بل نالت من عائشة وهي جالسة بما جعل عائشة تتحفّز للرد عليها لولا إشارات من النبي كانت تهدئ من حدتها. غير أن زينب اندفعت ولج بها الاندفاع وبالغت في النيل من عائشة، حتى لم يبق للنبيّ بدّ من أن يدع لحميرائه أن تدافع عن نفسها. وتكلّمت عائشة بما افحم زينب وسرّ النبي ودعاه إلى الإعجاب بابنة أبي بكر.
وبلغت منازعات أمهات المؤمنين في بعض الأحايين، بسبب إيثاره بعضهن بالمحبة على بعض، حدّا همّ النبيّ معه أن يطلق بعضهن لولا أنهن جعلناه في حل أن يؤثر من يشاء منهن على من يشاء. فلما ولدت مارية إبراهيم لجّت بهن الغيرة أعظم لجاج، وكانت بعائشة ألج. ومدّ لهن في لجاج الغيرة بهن هذا الرفق الذي كان محمد يعاملهن به، وهذه المكانة التي رفعهنّ إليها. ومحمد ليس خليّا فيشغل وقته بهذا اللّجاج ويدع نفسه لعبث نسائه، فلابدّ من درس فيه حزم وفيه صرامة يردّ الأمور بين أزواجه إلى نصابها، ويدع له طمأنينة التفكير فيما فرض الله عليه من الدعوة إلى رسالته. وليكن هذا الدرس هجرهن والتهديد بفراقهن؛ فإن ثبن إلى رشادهن فذاك، وإلا متعهن وسرحهن سراحا جميلا.
وانقطع النبي عن نسائه شهرا كاملا لا يكلّم أحدا في شأنهن، ولا يجرؤ أحد أن يفاتحه في حديثهن. وفي خلال هذا الشهر اتجه بتفكيره إلى ما يجب عليه وعلى المسلمين للدعوة إلى الإسلام، ولمد سلطانه إلى ما وراء شبه الجزيرة. على أن أبا بكر وعمر وأصهار النبيّ جميعا كانوا في قلق أشدّ القلق على ما قدّر مصيرا لأمهات المؤمنين، وما يتعرضن له من غضب رسول الله، وما يجرّ إليه غضب الرسول من غضب الله وغضب ملائكته، بل لقد قيل: إن النبيّ طلّق حفصة بنت عمر، بعد الذي كان من إفشائها ما وعدت أن تكتمه.
وقد سرى الهمس بين المسلمين أن النبي مطلّق أزواجه. وأزواجه خلال ذلك مضطربات نادمات، أن دفعتهن الغيرة إلى إيذاء هذا الزوج الرفيق بهنّ، هو منهن الأخ والأب والابن وكل ما في الحياة وما وراء الحياة. وجعل