محمد يقضي أكثر وقته في خزانة له ذات مشربة، يجلس غلامه رباح على أسكفّتها (?) ما أقام هو بالخزانة، ويرقّى هو إليها على جذع من نخل هو الخشونة كل الخشونة.
وإنه لفي خزانته يوم أوفى الشهر الذي نذر فيه هجر نسائه على التمام، وقد أقام المسلمون بالمسجد مطرقين ينكتون الحصى ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلّم نساءه، ويأسون لذلك أسى يبدو على وجوههم واضحا عميقا، إذ قام عمر من بينهم فقصد إلى مقام النبيّ بخزانته، ونادى غلامه رباحا كي يستأذن له على رسول الله. ونظر إلى رباح يروم الجواب، فإذا رباح لا يقول شيئا علامة أن النبيّ لم يأذن. فكرر عمر النداء؛ ولم يجب رباح مرة أخرى. فرفع عمر صوته قائلا: «يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإني أظنه ظن أني جئت من أجل حفصة. والله لئن أمرني بضرب عنقها لأضربن عنقها» . وأذن النبيّ، فدخل عمر فجلس ثم أجال بصره فيما حوله وبكى. قال محمد: ما يبكيك يابن الخطاب؟ وكان الذي أبكاه هذا الحصير الذي رأى النبيّ مضطجعا عليه وقد أثّر في جنبه، والخزانة لا شيء فيها إلا قبضة من شعير ومثلها من قرظ وأفيق (?) معلّق. فلما ذكر عمر ما يبكيه علّمه محمد من وجوب الإعراض عن الدنيا ما ردّ إليه طمأنينته، ثم قال عمر: يا رسول الله، ما يشقّ عليك من أمر النساء؟ إن كنت طلّقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. ثم انعكف يحدث النبيّ حتى تحسّر الغضب عن وجهه وحتى ضحك فلما رأى عمر ذلك منه ذكر له أمر المسلمين بالمسجد وما يذكرون من طلاقه نساءه، فلما ذكر النبي أنه لم يطلقهن استأذنه في أن يفضي بالأمر إلى أولئك المقيمين بالمسجد ينتظرون. ونزل إلى المسجد، فنادى بأعلى صوته: لم يطلّق رسول الله صلى الله عليه وسلّم نساءه. وفي هذه القصة نزلت الآيات الكريمة: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ. إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ. عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) (?) .
وبذلك انتهى الحادث، وثاب إلى نساء النبي رشادهن، ورجع هو إليهن تائبات عابدات مؤمنات، وعادت إلى حياته البيتيّة السكينة التي يحتاج إليها كل إنسان لأداء ما فرض عليه أداؤه.
ما قصصت الآن، عن هجر محمد نساءه وتخييره إياهن ومقدّمات هذا الهجر ونتائجه والوقائع التي سبقته وأدت إليه، هو في رأيي الرواية الصحيحة لتاريخ هذا الحادث. وهي رواية يتضافر على تأييدها ما جاء في كتب التفسير وفي كتب الحديث، وما جاء متفرقا عن أخبار محمد ونسائه في كتب السيرة المختلفة. بيد أنه لم تكن واحدة من هذه السير تقص الحوادث أو تضع المقدمات والنتائج بالصورة التي سردناها ههنا. وأكثر السير تمرّ بهذا الحادث مرّا دون أن تقف عنده، وكأنما تجده خشن الملمس فتخشى أن تقربه. وبعضها يقف عند رواية خبر العسل والمغافير، ولا يشير بكلمة إلى مسألة حفصة ومارية. فأمّا المستشرقون فيجعلون مسألة حفصة