لها من أجل ذلك منزل بجوار المسجد كما كان لأزواج النبيّ أمهات المؤمنين، بل أنزلها محمد بالعالية من ضواحي المدينة، في المحلّ الذي يقال له الآن مشربة أم إبراهيم، بمنزل تحيط به كروم؛ وكان يختلف إليها فيه كما يزور الرجل ملك يمينه. وكان قد اختارها حين أهداها المقوقس إليه مع أختها سيرين، وجعل سيرين لحسان بن ثابت. ولم يكن محمد يرجو أن يعقب بعد أن ظلت أزواجه جميعا من بعد وفاة خديجة ومنهن الفتاة الفتية، ومنهن النّصف التي أعقبت من قبل لم تبشّر إحداهن بخصب عشرة أعوام متتابعة. فلما حملت مارية ثم ولدت إبراهيم، وقد تخطّى هو إلى الستين. فاضت بالمسرّة نفسه، وامتلأ هذا القلب الإنساني الكبير أنسا وغبطة، وارتفعت مارية بهذا الميلاد في عينه إلى مكانة سمت بها عن مقام مواليه إلى مقام أزواجه، وزادتها إلى ذلك عنده حظوة ومنه قربا.
كان طبيعيّا أن يدسّ ذلك في نفوس سائر أزواجه غيرة تزايدت أضعافا بأنها أمّ إبراهيم وبأنهن جميعا لا ولد لهن. ولم تكن نظرة النبيّ إلى هذا الطفل إلا تزيد هذه الغيرة كل يوم في نفوسهن اشتعالا. فهو قد أكرم سلمى زوج أبي رافع قابلة مارية أيّما إكرام. وهو قد تصدق يوم ولد بوزن شعره ورقا على كل واحد من المساكين. وهو قد دفعه لترضعه أم سيف وجعل في حيازتها سبعا من الماعز ترضعه لبنها. وهو كان يمرّ كل يوم بدار مارية ليراه وليزداد أنسا بابتسامة الطفل البريئة الطاهرة، ومسرّة بنموّه وجماله. أي شيء أشد من هذا كله إثارة للغيرة في نفوس أزواج لم يلدن؟! وإلى أي حدّ تدفع الغيرة أولئك الأزواج؟
حمل النبيّ إبراهيم يوما بين ذراعيه إلى عائشة وهو فياض بالبشر، ودعاها لترى ما بين إبراهيم وبينه من عظيم الشبه. فنظرت عائشة إلى الطفل وقالت إنها لا ترى بينهما شبها. ولما رأت النبيّ فرحا بنموّ الطفل لاحظت في غضب أن كل طفل ينال من اللبن ما يناله إبراهيم يكون مثله أو خيرا منه نموّا. وكذلك كان مولد إبراهيم سببا أثار في زوجات النبيّ امتعاضا لم يقف أثره عند هذه الإجابات الجافية بل تعدّاها إلى أكثر منها.
وترك في تاريخ محمد وفي تاريخ الإسلام من الأثر ما نزل به الوحي وقدّسه كتاب الله الكريم.
وكان طبيعيّا أن يحدث هذا الأثر؛ فقد جعل محمد لنسائه من المكانة ما لم يكن معروفا قط عند العرب.
قال عمر بن الخطاب في حديث له: «والله إن كنا في الجاهليّة ما نعدّ للنساء أمرا حتى أنزل الله تعالى فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم. فبينما أنا في أمر آتمره إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا وكذا! فقلت لها: ومالك أنت ولما ها هنا، وما تكلّفك في أمر أيده! فقالت لي: عجبا لك يا بن الخطاب؟ ما تريد أن تراجع أنت، وإنّ ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى يظلّ يومه غضبان. قال عمر: فاخذ ردائي ثم أخرج مكاني حتى أدخل على حفصة فقلت لها: يا بنيّة، إنك لتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى يظل يومه غضبان؟ فقالت حفصة: والله إنّا لنراجعه. فقلت: تعلمين أني أحذّرك عقوبة الله وغضب رسوله. يا بنيّة لا يغرنك هذه التي أعجبها حسنها وحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم إياها. ثم خرجت حتى أدخل على أمّ سلمة لقرابتي منها فكلّمتها؛ فقالت لي أم سلمة:
عجبا لك يا بن الخطاب! لقد دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأزواجه! قال عمر: فأخذتني أخذا كسرتني به عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها. وروى مسلم في صحيحه أن أبا بكر استأذن على النبي ودخل بعد أن أذن له، ثم استأذن عمر ودخل بعد الإذن، فوجد النبي جالسا وحوله نساؤه واجما ساكنا. فقال عمر: «لأقولن شيئا أضحك النبي صلى الله عليه وسلّم. ثم قال: يا رسول الله، لو رأيت بنت