قديم. فلما أصبح غدا إلى المسجد واستأمن النبيّ وأنشده قصيدة:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيّم إثرها لم يفد مكبول
فعفا النبي عنه وحسن من بعد ذلك إسلامه.
وكان من هذا الأثر كذلك أن بدأت القبائل تقبل على النبي تقدّم الطاعة بين يديه: قدم وفد من طيئ وعلى رأسهم سيدهم زيد الخيل، فلما انتهوا إليه أحسن استقبالهم، وتحدّث إليه زيد؛ فقال النبي له: ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا زيد الخيل فإنه لم يبلغ كلّ ما فيه. ودعاه «زيد الخير» بديلا من «زيد الخيل» . وأسلمت طيّئ وزيد على رأسها.
وكان عديّ بن حاتم الطائي نصرانيّا، وكان من أشد العرب كراهية لمحمد. فلما رأى أمره وأمر المسلمين في شبه الجزيرة، تحمّل في إبله بأهله وولده ولحق بأهل دينه من النصارى بالشام، وإنما فرّ عدي حين أوفد النبيّ عليّ بن أبي طالب ليهدم صنم طيئ، وهدم عليّ الصنم واحتمل الغنائم والأسرى ومن بينهم ابنة حاتم أخت عدي التي حبست في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا تحبس فيها. ومرّ بها النبي فقامت إليه وقالت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الرافد، فامنن عليّ منّ الله عليك. وأعرض عنها النبيّ. حين علم أن رافدها عديّ بن حاتم الفارّ من الله ورسوله. لكنها راجعته، وذكر هو ما كان لأبيها في الجاهليّة من كرم أعلى به ذكر العرب، فأمر بتسريحها وكساها كسوة حسنة وأعطاها نفقتها وحملها مع أوّل ركب قاصد إلى الشام. فلمّا لقيت أخاها وذكرت له ما أكرمها به محمد عاد إليه فألقى بنفسه إلى صفوف المسلمين.
وكذلك جعل السادة وجعلت القبائل تفد إلى محمد، بعد فتح مكة وبعد انتصار حنين وحصار الطائف، تدين له بالرسالة وبالإسلام، وهو في مقامه ذاك بالمدينة مطمئن إلى نصر الله وإلى شيء من سكينة الحياة.
لكنّ سكينة حياته لم تكن يومئذ صفوا؛ فقد كانت زينب ابنته إذ ذاك مريضة مرضا خشي منه عليها.
وهي منذ آذاها الحويرث وهبّار حين خروجها من مكة أذى أفزعها فأجهضها، قد ظلّت مهدّمة العافية، وانتهى المرض بوفاتها. وبموتها لم يبق لمحمد من عقبه إلا فاطمة، بعد أن ماتت أمّ كلثوم كما ماتت رقيّة قبل زينب، وحزن محمد لفقدها وذكر لها رقة شمائلها وجميل وفائها لزوجها أبي العاصي بن الربيع حين بعثت تفتديه من أبيها وقد أسره ببدر، وتفتديه مع ما كان من إسلامها وشركه، ومع ما كان من محاربته أباها حربا لو انتصرت قريش فيها لما أبقت لمحمد على حياة. ذكر محمد رقة شمائلها وجميل وفائها، وذكر ما لاقت من ألم المرض طوال أيامها منذ عادت من مكة إلى حين وفاتها. وكان محمد يشارك كل ذي ألم في ألمه، وكلّ ذي مصاب في مصابه، وكان يذهب إلى أطراف المدينة وإلى ضواحيها يعود المريض، ويواسي البائس، ويأسو جراح الكليم. فإذا أصابه المقدار في ابنته بعد ما أصابه من قبل في أختيها وكما أصابه قبل رسالته في أخويها، فلا جرم أن يحزن ويشتدّ به جوى الحزن، وإن وجد من برّ الله ورفقه به ما يعزّيه كيما يسلو.
ولم يطل انتظاره التأساء؛ فقد رزقه الله من مارية القبطية غلاما دعاه إبراهيم تيمّنا باسم إبراهيم جدّ الأنبياء الحنيف المسلم. وكانت ماريّة إلى يومئذ ومنذ أهداها المقوقس إلى النبيّ في مرتبة السراري؛ فلم يكن