ذاكر قوله تعالى في سورة الفتح التي نزلت في عهد الحديبية: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) (?) .
وقطعوا مراحل الطريق ما بين خيبر والمدينة في ثلاثة أيام لم تكد خيبر تحسهم أثناءها، حتى لقد باتوا أمام حصونها. وأصبح الصباح وغدا عمال خيبر خارجين إلى مزارعهم ومعهم مساحيهم ومكاتلهم؛ فلما رأوا جيش المسلمين ولّوا الأدبار يتصايحون: هذا محمد والجيش معه! وقال الرسول حين سمع قولهم: «خربت خيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» .
على أن يهود خيبر كانوا يتوقعون أن يغزوهم محمد، وكانوا يودون أن يجدوا الوسيلة إلى الخلاص منه.
أما بعضهم فنصح لهم يبادروا إلى تأليف كتلة منهم ومن يهود وادي القرى وتيماء تغزو يثرب، دون اعتماد على البطون العربية في الغزو، وأما آخرون غيرهم فكانوا يرون أن يدخلوا في حلف مع الرسول، لعل ذلك يمحو ما ثبت من كراهيتهم في نفوس المسلمين والأنصار منهم خاصّة، بعد اشتراك حييّ بن أخطب وجماعة من اليهود معه في تأليب العرب لاقتحام المدينة وأخذها عنوة في غزوة الخندق. لكن النفوس من الجانبين كانت ملأى، حتى لقد سبق المسلمون قبل غزوة خيبر بقتل كلّ من سلّام بن أبي الحقيق واليسير بن رزّام من زعماء خيبر.
لذلك كانت اليهود على اتصال دائم بغطفان، ولذلك استعانوا بهم أول ما ترامى إليهم خبر اعتزام محمد غزوهم. ويختلف الرواة فيما كان من غطفان: أأعانتهم، أم حالت جيوش المسلمين بينها وبين خيبر.
وسواء اكانت غطفان قد أعانت اليهود أم كانت قد وقفت بمعزل بعد أن وعدها محمد حظّا من الغنائم، فقد كانت هذه الموقعة من أكبر المواقع، أن كانت جموع اليهود في خيبر من أقوى الطوائف الإسرائيلية بأسا، وأوفرها مالا وأكثرها سلاحا، وأن كان المسلمون مؤمنين بأنه ما بقيت لليهود شوكة في شبه الجزيرة فستظل المنافسة بين دين موسى والدين الجديد حائلا دون تمام الغلب لهم، لذلك ذهبوا مستقتلين لا يعرف التردّد إلى نفوسهم سبيلا. ووقفت قريش ووقفت شبه جزيرة العرب كلها متطلّعة إلى هذه الغزوة؛ حتى لقد كان من قريش من يتراهنون على نتائجها ولمن يتم الغلب فيها. وكان كثيرون من قريش يتوقعون أن تدور الدائرة على المسلمين، لما عرف من قوة حصون خيبر وقيامها فوق الصخور والجبال، ولطول ممارسة أهلها للحرب والقتال.
وقف المسلمون أمام حصون خيبر متأهبين كاملي العدة. وتشاور اليهود فيما بينهم، فأشار عليهم زعيمهم سلّام بن مشكم، فأدخلوا أموالهم وعيالهم حصنى الوطيح والسّلالم، وأدخلوا دخائرهم حصن ناعم، ودخلت المقاتلة وأهل الحرب حصن نطاة، ودخل سلّام بن مشكم معهم يحرضهم على الحرب. والتقى الجمعان حول حصن نطاة واقتتلوا قتالا شديدا، حتى قيل: إن عدد الجرحى من المسلمين في هذا اليوم بلغ خمسين. فكم كان إذا عدد الجرحى من اليهود! وتوفي سلام بن مشكم، فتولى الحارث بن أبي زينب قيادة