روحية صرفة وكانت ترتفع بالإنسان إلى أسمى مراتب الإنسانية، وحيثما التقت المادة والروح، وحيثما تعارض همّ الحاضر وأمل الخلود، انهزمت المادة وعنا وجه الحاضر.
ثم إن فارس وبزنطية كانتا، على عظم سلطانهما، قد فقدتا قوّة الابتكار وملكة الإنشاء، ونزلتا في عالم التفكير وفي عالم الشعور وفي عالم العمل إلى درك التقليد واحتذاء السلف، واعتبار كل جديد بدعة، وكل بدعة ضلالة. والجماعة الإنسانية كالفرد الإنساني وككل كائن حيّ، تتجدد كل يوم، فإما كانت ما تزال فتية شابة فكان تجددها خلقا وإنشاء ومزيدا في الحياة، وإما كانت قد بلغت الذروة ولم تعد قادرة على الإنشاء والخلق فهي تنفق من رأس مال حياتها؛ فحياتها لذلك في نقص مستمر، وفي انحدار إلى درك النهاية. والجماعة الإنسانية التي تنحدر إلى درك النهاية مصيرها أن يخلقها عنصر خارجي، فيه فتوة الحياة، خلقا جديدا. العنصر الخارجي المملئ بقوة الحياة الفتية إلى جانب فارس وبزنطية لم يكن في ناحية الصين أو الهند، ولا كان في ناحية أواسط أوروبا؛ إنما كان هذا العنصر محمدا. كانت دعوته في شباب فتوّتها جديرة بأن تعيد إلى هذه النفوس، المنهدم داخلها بحكم التقاليد الدينية والخرافات القائمة منها مقام الإيمان والعقيدة، حياة فتية تجددها وتردها إلى الحياة. وشعلة الإيمان الجديد التي كانت تضيء نفس الرسول، وقوّة نفسه التي سمت فوق كل قوة، هي التي هدت إلهامه إلى أن يبعث هؤلاء الرسل يدعون عظاماء الأرض بدعاية الإسلام دين الحق، دين الكمال، دين الله جل شأنه؛ يدعوهم إلى الدين الذي يحرر العقول لترى، والقلوب لتبصر، والذي يضع للإنسان في حياة العقيدة، كما يضع له في نظام الجماعة، قواعد عامة توازي بين سلطان الروح وقوة المادة التي تنطوي على الروح، لتبلغ بالإنسان من طريق هذه الموازاة إلى غاية ما يستطيع بلوغه من قوة على الحياة، قوة لا يشوبها وهن ولا غرور، ولتبلغ بالجماعة الإنسانية بفضل ذلك النظام إلى خير مكان أعد لها بعد أن تسلك ما قدّر لها من ضروب التطوّر بين كائنات الوجود جميعا.
أفيرسل محمد رسله إلى هؤلاء الملوك وهو ما يزال يخشى غدر اليهود الذين لا يزالون مقيمين شمال المدينة؟ صحيح أنه قد عهد عهد الحديبية، فأمن قريشا وأمن الجنوب كله؛ لكنه لن يأمن من ناحية الشمال أن يستعين هرقل أو أن يستعين كسرى بيهود خيبر، وأن يحرّك في نفوسهم ثاراتهم القديمة، وأن يذّكّرهم إخوانهم في الدين من بني قريظة وبني النّضير وبني قينقاع، وقد أجلاهم محمد عن ديارهم بعد أن حصرهم بها وقاتلهم فيها وقتل منهم وسفك دماءهم. واليهود من قريش عداوة له؛ لأنهم أحرص منهم على دينهم، ولأن فيهم ذكاء وعلما أكثر مما في قريش. وليس من اليسير أن يوادعهم بصلح كصلح الحديبية، ولا أن يطمئن لهم وقد سبقت بينه وبينهم خصومات لم ينتصروا في إحداها. فما أجدرهم أن يثأروا لأنفسهم إذا هم وجدوا من ناحية هرقل مددا. لابد إذا من القضاء على شوكة هؤلاء اليهود قضاء أخيرا حتى لا يكون لديهم من الوقت متسع للاستعانة بغطفان أو بغيرها من القبائل المعادية لمحمد والموالية لها.
وكذلك فعل؛ فإنه لم يقم بالمدينة بعد عوده من الحديبية إلا خمس عشرة ليلة على قول، وشهرا على قول آخر، ثم أمر الناس بالتجهيز لغزو خيبر على ألا يغزو معه إلا من شهد الحديبية، إلا أن يكون غازيا متطوعا ليس له من الغنيمة شيء. وانطلق المسلمون في ألف وستمائة ومعهم مائة فارس، وكلهم واثق بنصر الله،