اليهود، وخرج من حصن تاعم يريد منازلة المسلمين؛ فدحره بنو الخزرج واضطروه أن يرتد إلى الحصن على أعقابه. وضيق المسلمون الحصار على حصون خيبر واليهود يستميتون في الدفاع إيمانا منهم بأن هزيمتهم أمام محمد هي القضاء الأخير على بني إسرائيل في بلاد العرب. وتتابعت الأيام فبعث الرسول أبا بكر إلى حصن ناعم كي يفتحه، فقاتل ورجع دون أن يفتح الحصن. وبعث الرسول عمر بن الخطاب في الغداة، فكان حظه كحظ أبي بكر. فدعا الرسول إليه عليّ بن أبي طالب، ثم قال له: خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك. ومضى عليّ بالراية، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده، فتناول عليّ بابا كان عند الحصن فتترّس به فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الحصن ثم جعل الباب قنطرة اجتاز المسلمون عليها إلى داخل أبنية هذا الحصن. وإنما سقط حصن ناعم بعد أن قتل قائده الحارث بن أبي زينب، مما يدل على استماتة اليهود في القتال واستماتة المسلمين في الحصار وفي الهجوم.
وبعد حصن ناعم فتح المسلمون القموص بعد قتال شديد، وبعد أن قلّت المؤونة عندهم قلّة توجه بسببها جماعة منهم يشكون إلى محمد أمرهم، ويطلبون إليه ما يسدون به رمقهم؛ فلم يجد شيئا يعطيهم إيّاه، وأذن لهم في أكل لحوم الخيل. وقد رأى أحد المسلمين قطيعا من الغنم يدخل إلى أحد حصون اليهود، فاختطف منه شاتين فذبحوهما وأكلوها. على أنه بعد أن تم لهم فتح حصن الصّعب بن معاذ قلّت حاجتهم، أن وجدوا فيه طعاما كثيرا مكن لهم من متابعة قتال اليهود وحصارهم في سائر حصونهم. واليهود أثناء ذلك كله لا يسلّمون في شبر أرض ولا يسلمون حصنا إلا بعد أن يدافعوا عنه دفاع الأبطال، وبعد ألّا يبقى لهم على صد هجوم المسلمين قوة. خرج مرحب اليهودي من أحد الحصون وقد جمع للحرب سلاحه وأكمل عدته وهو يرتجز:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرّب
أطعن أحيانا وحينا أضرب ... إذا الليوث أقبلت تحرّب (?)
إن حماي للحمى لا يقرب ... يحجم عن صولتي المجرب
فصاح محمد بأصحابه: من لهذا؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله. أنا والله الموتور الثاثر! قتل أخي بالأمس. وقام إليه بإذن النبي وتصاولا حتى كاد مرحب يقتله، لكن ابن مسلمة اتقى سيفه بالدّرقة فوقع السيف فيها فعضّت به فأمسكته، وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله (?) . وكذلك كانت هذه الحرب بين اليهود والمسلمين ضروسا قاسية، وكانت منعة حصون اليهود تزيدها شدة وقسوة.
حاصر المسلمون حصن الزبير وطال حصارهم إياه وقاتلوا قتالا شديدا، ومع ذلك لم يستطيعوا فتحه حتى قطعوا الماء عنه واضطروا اليهود فيه إلى الخروج منه وإلى قتال المسلمين قتالا انتهى بالأولين إلى أن يلوذوا بالفرار. وكذلك جعلت الحصون تقع واحدا بعد الآخر في أيدي المسلمين، حتى انتهوا إلى الوطيح والسلالم بمنطقة الكتيبة وكانا آخر حصنين منيعين لهم. هنالك استولى على نفوسهم اليأس، فطلبوا الصلح بعد أن حاز النبي أموالهم كلها بالشّقّ ونطاة والكتيبة، على أن يحقن دماءهم. وقبل محمد وأبقاهم على أرضهم التي آلت له بحكم الفتح، على أن يكون لهم نصف ثمرها مقابل عملهم.