دائرة نفوذ الإمبراطوريتين. وكانت حياة العرب وقفا على التجارة مع اليمن ومع الشام، فكانوا بذلك محتاجين أشدّ الحاجة إلى مصانعة كسرى وهرقل جميعا حتى لا يفسد بسلطانهما عليها تجارتهم. ثم إن العرب لم يكونوا يزيدون على قبائل تشتد الخصومة بينها حينا وتهدأ حينا آخر، ولا تربط بعضها ببعض رابطة تجعل منها وحدة سياسية تستطيع أن تفكر في مواجهة نفوذ الدولتين العظيمتين. ولذلك كان عجيبا أن يفكر محمد يومئذ في أن يرسل رسله إلى الملكين العظيمين وإلى غسّان واليمن ومصر والحبشة يدعوهم إلى دينه، دون خشية لما قد يترتب على عمله هذا من نتائج ربما تجرّ على بلاد العرب كلها الخضوع لنير فارس أو بزنطية.
لكن محمدا لم يتردّد في دعوة هؤلاء الملوك جميعا إلى دين الحقّ. بل خرج يوما على أصحابه فقال: «أيها الناس، إن الله قد بعثني رحمة للناس كافة تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريون على عيسى بن مريم» . قال أصحابه: «وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله؟» قال: «دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فأمّا من بعثه مبعثا قريبا فرضي وسلّم، وأما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه وتثاقل» . ثم ذكر لهم أنه مرسل إلى هرقل وكسرى والمقوقس والحارث الغسّاني ملك الحيرة والحارث الحميرى ملك اليمن وإلى نجاشي الحبشة يدعوهم إلى الإسلام. وأجابه أصحابه إلى ما أراد. فصنع له خاتما من فضة نقش عليه: «محمد رسول الله» وبعث بكتبه يقول فيها ما نضع منه مثلا أمام القارئ كتابه إلى هرقل إذ جاء فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتّبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين. فإن تولّيت فإنما عليك إثم الأريسيّين (?) . «يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألّا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون» .
ودفع بكتاب هرقل إلى دحية بن خليفة الكلبي، وبكتاب كسرى إلى عبد الله بن حذافة السّهمي.
وبكتاب النجاشي إلى عمرو بن أمية الضّمري، وبكتاب المقوقس إلى حاطب بن أبي بلتعة، وبكتاب ملكي عمان إلى عمرو بن العاص السّهمي، وبكتاب ملكي اليمامة إلى سليط بن عمرو، وبكتاب ملك البحرين إلى العلاء بن الحضرمي، وبكتاب الحارث الغسّاني ملك تخوم الشام إلى شجاع بن وهب الأسدي، وبكتاب الحارث الحميري ملك اليمن إلى المهاجر بن أمية المخزومي. وانطلق هؤلاء جميعا كلّ إلى حيث أرسله النبي.
انطلقوا في وقت واحد على قول أكثر المؤرّخين، وانطلقوا في أوقات مختلفة على قول بعضهم.
أليس إرسال محمد هؤلاء الرسل عجبا يثير الدهشة! أو ليس أشد إثارة للدهشة ألا تمضي ثلاثون عاما بعد ذلك حتى تصبح هذه البلاد التي أرسل محمد إليها رسله وقد فتحها المسلمون ودان أكثرها بالإسلام! لكن هذه الدهشة ما تلبث أن تزول حين تذكر أن الإمبراطوريتين اللتين كانت تزعمان تحضير عالم ذلك العصر، وكانت حضارتهما هي الغالبة على العالم كله، إنما كانتا تتنازعان الغلب المادي، على حين كانت القوة الروحية فيهما جميعا قد انحلت واضمحلّت. فقد كانت فارس مقسمة بين الوثنية والمجوسية. وكانت مسيحية بزنطية قد اضطربت بين مختلف المذاهب والفرق فلم تظل عقيدة سليمة تحرك القلوب وتقويها، بل انقلبت رسوما وتقاليد يهيمن بها رجال الدين على عقول السواد لحكمه واستغلاله. أما الدعوة الجديدة التي يدعو محمد إليها فكانت