دم في الحديبية وهي من حرم مكة. وبهتت قريش حين عرفوا هذا، وسقطت كل حجة لهم يريدون أن يزعموا بها أن محمدا يريد حربا، وأيقنوا أن كل اعتداء من جانبهم على محمد لن تنظر إليه العرب إلا على أنه غدر دنيء، لمحمد الحقّ في أن يدفعه بكل ما أوتي من قوة.
ثم إنه عليه السلام حاول أن يمتحن صبر قريش مرة أخرى بإرسال رسول يفاوضهم؛ فدعا إليه عمر بن الخطاب كي يبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له.
قال عمر: «يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عديّ بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إيّاها وغلظتي عليها. ولكني أدلك على رجل أعزّ بها مني: عثمان بن عفان» . فدعا النبي عثمان زوج ابنته وبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش. فخرج عثمان في رسالته، فلقيه لأوّل ما دخل مكة أبان بن سعيد فأجاره الزمن الذي يفرغ فيه من رسالته. وانطلق عثمان إلى سادة قريش فأبلغهم رسالته.
قالوا: يا عثمان؛ إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. قال ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله، إنما جئنا لنزور البيت العتيق ولنعظم حرمته ولنؤدي فرض العبادة عنده. وقد جئنا بالهدي معنا، فإذا نحرناها رجعنا بسلام. وأجابت قريش بأنها أقسمت لن يدخل محمد مكة هذا العام عنوة. وطال الحديث وطال احتباس عثمان عن المسلمين، وترامى إليهم أن قريشا قتلته غيلة وغدرا. ولعل سادة قريش كانوا في هذه الأثناء يبحثون مع عثمان عن صيغة توفقّ بين قسمهم ألا يدخل محمد هذا العام مكة عنوة، وبين حرص المسلمين على أن يطوفوا بالبيت العتيق ويؤدّوا إلى رب البيت فرضه. ولعلهم قد أنسوا إلى عثمان وكانوا في هذه الأثناء يبحثون وإيّاه عن تنظيم علاقاتهم بمحمد وتنظيم علاقات محمد بهم.
مهما يكن من الأمر فقد قلق المسلمون بالحديبية على عثمان أشدّ القلق، وتمثّل أمامهم غدر قريش وقتلهم إيّاه في هذا الشهر الذي لا تجيز فيه أديان العرب جميعا لعدوّ أن يقتل في حرم الكعبة ولا في حرم مكة عدوه، وتمثل أمامهم غدر قريش برجل ذهب إليهم في رسالة سلم وموادعة، ووضع كلّ منهم يده على قبضة سيفه؛ سمة النذير وسمة البطش والغضب. ودخل في روع النبي عليه السلام أن قريشا قتلت عثمان فغدرت في الشهر الحرام فقال: «لا نبرح حتى نناجز القوم» . ودعا أصحابه إليه وقد وقف تحت شجرة في هذا الوادي فبايعوه جميعا على ألا يفرّوا حتى الموت. بايعوه وكلهم ثابت الإيمان، قويّ العزيمة. ممتليء حماسة للانتقام ممن غدر وقتل. بايعوه بيعة الرضوان التي نزل فيها قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (?) .
فلمّا أتمّ المسلمون البيعة ضرب عليه السلام بإحدى يديه على الآخرى بيعة لعثمان كأنه حاضر معهم بيعة الرضوان. وبهذه البيعة اهتزت السيوف في غمودها، وتبدّى للمسلمين جميعا أن الحرب آتية لا ريب فيها، وجعل كلّ ينتظر يوم الظفر أو يوم الاستشهاد بنفس راضية وفؤاد مرتاح وقلب مطمئن. وإنهم لكذلك إذ ترامى إليهم أن عثمان لم يقتل، ثم لم يطل بهم الأمر حتى جاء عثمان بنفسه إليهم. على أن بيعة الرضوان هذه بقيت مع ذلك، كبيعة العقبة الكبرى، علما في تاريخ المسلمين كان محمد يستريح إلى ذكره لما كشف عنه من متانة