بعثت قريش رسولا لم يسمع إلا ما سمع من قبله، ولم يغامر بأن يتّهم عند قريش. وكانت قريش تعتمد فما أعدّت من قتال محمد على حلفائها من الأحابيش (?) ، ففكرت أن توفد سيدهم لعله إذا رأى أن محمدا لا يسمع له ولا يتفاهم وإياهم، ازداد لقريش نصرة فزادهم على محمد قوة. وخرج الحليس سيد الأحابيش قاصدا معسكر المسلمين. فلمّا رآه النبيّ مقبلا أمر بالهدي أن تطلق أمامه، لتكون تحت نظره دليلا ماديّا على أن هؤلاء الذين تريد قريش حربهم إنما جاؤا حاجبين معظمين البيت، ورأى الحليس الهدي سبعين بدنة تسيل عليه من عرض الوادي قد تأكلت أوبارها؛ فتأثر لهذا المنظر وثارت في نفسه ثائرات دينية، وأيقن أن قريشا ظالمة هؤلاء الذين لا يريدون حربا ولا عدوانا. فانقلب إلى قريش دون أن يلقى محمدا وذكر لهم ما رأى. فلمّا سمعوا حديثه غاظهم وقالوا له: اجلس، فإنما أنت أعرابيّ لا علم لك. وغضب الحليس لمقالتهم وأنذرهم أنه ما حالفهم ليصدّ عن البيت من جاء معظما إيّاه. وأنهم إن يخلّوا بين محمد وما جاء به نفرّ بالأحابيش من مكة.
وخشيت قريش عاقبة غضبه، فاسترضوه وطلبوا إليه أن ينظرهم حتى يفكروا في أمرهم.
ثم رأوا أن يوفدوا حكيما يطمئنون إلى حكمته، فتحدّثوا في ذلك إلى عروة بن مسعود الثقفيّ. فاعتذر لهم بما رأى من تعنيفهم وسوء مقابلتهم لمن سبقه من رسلهم. فلمّا اعتذروا له وأكدوا أنه عندهم غير متهم وأنهم يطمئنون إلى حكمته وحسن رأيه، خرج إلى محمد وذكر له أن مكة بيضته، وأنه إن يفضضها على أهله المقيمين بها بمن جمع من أوشاب الناس ثم انصرف هؤلاء الأوشاب عنه، كان العار الخالد لقريش عارا لا يرضاه محمد وإن اتّصلت الحرب بينه وبين قريش ما اتّصلت. فصاح أبو بكر بعروة منكرا أن ينصرف الناس عن رسول الله. وكان عروة يتناول لحية محمد وهو يكلمه، وكان المغيرة بن شعبة واقفا على رأس الرسول يضرب يد عروة كلما تناول لحية محمد، مع علمه عروة هو الذي دفع عنه قبل إسلامه ثلاث عشرة دية عن قتلى كان المغيرة قتلهم. ورجع عروة بعد أن سمع من محمد مثل ما سمع الذين سبقوه من أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء معظما البيت مؤدّيا فرض ربه. فلما كان عند قريش قال لهم: «يا معشر قريش، إني جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشيّ في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه. لا يتوضّأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، وأنهم لن يسلموه لشيء أبدا، فروا رأيكم» .
وطالت المحادثات على النحو الذي قدّمنا. ففكر محمد في أن يرسل قريش ربما لم يكن لديهم من الإقدام ما يقنعون به قريشا بالرأي الذي يرى، فبعث من جانبه رسولا يبلغهم رأيه. لكنهم عقروا جمل هذا الرسول، وأرادوا قتله لولا أن منعته الأحابيش فخلّوا سبيله. وقد دلّ أهل مكة بتصرّفهم هذا على ما يسودهم من روح الخصومة والبغضاء مما قلق له صبر المسلمين، حتى لقد فكر بعضهم في القتال. وفيما هم كذلك يتبادلون الرسل يحاولون أن يصلوا إلى اتفاق، كان بعض السفهاء من قريش يخرجون ليلا يرمون عسكر النبيّ بالحجارة؛ حتى خرج منهم أربعون أو خمسون رجلا يوما ليصيبوا من أصحاب النبي، فأخذوا أخذا وجيء بهم إليه. أفتدري ماذا صنع؟ عفا عنهم وخلّى سبيلهم تشبثا منه بخطّة السلم واحتراما للشهر الحرام أن يسفك فيه