الروابط بينه وبين أصحابه، ولما دل عليه من مبلغ إقدامهم على خوض مخاطر الموت لا يخافون، ومن أقدم على مخاطر الموت خافه الموت وعنت له جبهة الحياة وكان من الفائزين.
عاد عثمان فأبلغ محمدا ما قالت قريش. فهم لم تبق عندهم ريبة في أنه وأصحابه إنما جاؤا حاجبين معظّمين للبيت. وهم يقدّرون أنهم لا يملكون منع أحد من العرب عن الحج والعمرة في الأشهر الحرم. وهم مع ذلك قد خرجوا من قبل تحت راية خالد بن الوليد لقتاله وصدّه عن دخول مكة، وقد وقعت بين بعض رجالهم وبعض رجاله مناوشات. فإذا هم بعد الذي حدث تركوه يدخل مكة تحدّثت العرب بأنهم انهزموا أمامه، فتضعضعت في نظر العرب مكانتهم وسقطت هيبتهم. لذلك هم يصرّون على موقفهم منه هذا العام إبقاء على هذه الهيبة واستبقاء لتلك المكانة. فليفكر وإيّاهم، وهذا موقفه وموقفهم، لعلهم جميعا يجدون من هذا الموقف مخرجا، وإلّا فليس إلا الحرب يدخلونها طوعا أو كرها. بل إنهم لها لكارهون في هذه الأشهر، تقديرا لحرمتها الدينية من ناحية، ولأنها من ناحية أخرى، إذا لم تحترم اليوم حرمتها ووقعت الحرب فيها، لم يأمن العرب في مستقبل أيّامهم أن يجيئوا إلى مكة وأسواقها مخافة انتهاك الأشهر الحرم مرّة أخرى، فيجني ذلك على تجارة مكة وعلى أرزاق أهلها.
واتصل الحديث وعادت المفاوضات بين الفريقين كرة أخرى. وأوفدت قريش سهيل بن عمرو وقالوا له: أئت محمدا فصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنّا عامه هذا. فو الله لا تحدّث العرب عنا دخلها علينا عنوة أبدا. فلمّا انتهى سهيل إلى الرسول جرت محادثات طويلة للصلح وشروطه كانت تنقطع في بعض الأحيان، ثم يعيد اتصالها حرص الجانبين على النجاح. وكان المسلمون من حول النبيّ يسمعون أمر هذه المحادثات ويضيق بعضهم بأمرها صبرا، لتشدّد سهيل في مسائل يتساهل النبي في قبولها. ولولا ثقة المسلمين المطلقة بنبيهم، ولولا إيمانهم به، لما ارتضوا ما تمّ الاتفاق عليه، ولقاتلوا ليدخلوا مكة أو لتكون الآخرى.
فقد ذهب عمر بن الخطّاب في أعقاب المحادثات إلى أبي بكر ودار بينهما الحديث الآتي:
عمر- أبا بكر، أليس برسول الله؟!
أبو بكر- بلى؟!
عمر- أولسنا بالمسلمين؟!
أبو بكر- بلى!
عمر- فعلام نعطي الدّنيّة في ديننا؟!
أبو بكر- يا عمر الزم غرزك (?) فإني أشهد أنه رسول الله!
عمر- وأنا أشهد أنه رسول الله!
وانقلب عمر بعد ذلك إلى محمد وتحدّث وإيّاه بمثل هذا الحديث وهو مغيط محنق. لكن لم يغيّر من صبر النبيّ ولا من عزمه؛ وكلّ الذي قاله في ختام الحديث لعمر: «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيّعني» ثم كان بعد ذلك من صبر محمد حين كتابة العهد ما زاد في حفيظة بعض المسلمين فقد دعا عليّ بن أبي طالب وقال له: «أكتب بسم الله الرحمن الرحيم» . فقال سهيل: «أمسك، لا أعرف الرحمن الرحيم، بل