قوة! فما تظن قريش! فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السّالفة (?) » . ثم وقف يفكر ماذا عساه يصنع. إنه لم يخرج من المدينة غازيا، وإنما خرج محرما يريد بيت الله يؤدي عنده إلى الله فرضه. وهو لم يتّخذ للحرب عدّتها؛ فلعله إن حارب فلم ينتصر جعلت قريش من ذلك موضع فخارها، بل لعلها إنما أوفدت ابن الوليد وعكرمة قصد إدراك هذه البغية حين علمت أنه لم يخرج مقاتلا.
وبينما كان محمد بفكر كانت فرسان مكة تبدو على مرمى النظر، يدلّ مرآها على أنه لا سبيل للمسلمين إلى درك غايتهم إلا أن يقتحموا هذه الصفوف اقتحاما، وأن تدور معركة تقف فيها قريش مدافعة عن كرامتها وعن شرفها وعن وطنها؛ معركة لم يردها محمد، وإنما حملته قريش عليها حملا وألزمته خوض غمارها إلزاما.
إن المسلمين ممن معه لا تنقصهم الحمية، وقد تكفيهم سيوفهم إذا جردت من غمودها لدفع عدوان المعتدي؛ لكنه يفوت بذلك قصده وقد يجعل لقريش عند العرب حجة عليه، وهو أبعد من هذا نظرا أكثر حنكة وأدق سياسة. إذا ... نادى في الناس قائلا من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟ وكذلك ظل مستقرّا رأيه على سلوك سياسة السلم التي رسم منذ خرج من المدينة ومنذ اعتزم الذهاب إلى مكة حاجا.
وخرج رجل يسلك بهم طريقا وعرا بين شعاب مضنية وجد المسلمون في سلوكها مشقّة أي مشقة، حتى أفضت بهم إلى سهل عند منقطع الوادي الذي سلكوا فيه ذات اليمين حتى خرجوا على ثنيّة المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة. فلما رأت خيل قريش ما صنع محمد وأصحابه ركضوا راجعين أدراجهم ليقفوا مدافعين عن مكة إذا دهمها المسلمون. ولمّا بلغ المسلمون الحديبية بركت القصواء (ناقة النبي) وظن المسلمون أنها جهدت.
فقال رسول الله: «إنما حبسها حابس الفيل عن مكة. لا تدعوني قريش إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها» . ثم دعا الناس إلى النزول. فقالوا له: «يا رسول الله، ما بالوادي ماء ننزل عليه» .
فأخرج هو سهما من كنانته فأعطاه رجلا نزل به إلى بئر من الابار المنثورة في تلك الأنحاء، فغرزه في الرمال من قاع البئر فجاش الماء، فاطمأن الناس ونزلوا.
نزلوا، ولكن قريشا بمكة لهم بالمرصاد، وهي تؤثر الموت على أن يدخلها محمد عليهم عنوة. فهل يعدون لقريش عدّة النزال فيحاربوها حتى يحكم الله بينهم وبينها وحتى يقضي الله أمرا كان مفعولا؟! في هذا فكر بعضهم وفي احتماله فكرت قريش. لئن حدث ذلك وانتصر المسلمون لقد قضي على قريش عند العرب كلها قضاء أخيرا، وقد تعرّضت قريش لأن ينزع منها سدانة الكعبة وسقاية الحاجّ وكل ما تفاخر به العرب من مراسم ومناسك دينية. ماذا تصنع إذا؟ وقف المعسكران يفكر كلّ في الخطّة التي يتّبع؛ فأمّا محمد فظلّ على خطّته التي رسم منذ أخذ للعمرة عدّته، خطة السلم والجنوح عن القتال إلا أن تهاجمه قريش أو تغدر به، وهنالك لا يبقي من انتضاء السيف مفرّ. وأمّا قريش فتردّدت ثم رأت أن توفد إليه من رجالها من يتعرّف قوّته من ناحية، ومن يصدّه عن دخول مكة من ناحية أخرى. وجاءه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة يسألونه ما الذي جاء به. فلمّا اقتنعوا من حديثه بأنه لم يأت يريد حربا وإنما زائرا للبيت معظما لحرمته، رجعوا إلى قريش يريدون إقناعهم ليخلّوا بين الرجل وأصحابه وبين البيت العتيق. لكن قريشا اتّهموهم وجبهوهم وصاحوا بهم: وإن كان جاء لا يريد قتالا فو الله لا يدخل علينا عنوة أبدا ولا تتحدّث بذلك عنّا العرب. ثم