في الوقت نفسه على أن يكون معه من المسلمين أكبر عدد مستطاع. وحكمته في ذلك أن تعلم العرب كلها أنه خرج في الشهر الحرام حاجّا ولم يخرج غازيا، وأنه أراد أداء فريضة فرضها الإسلام كما فرضتها أديان العرب من قبل، وأنه أشرك العرب معه ممن ليسوا على دينه في أداء هذه الفريضة. فإن أصرّت قريش مع ذلك على مقاتلته في الشهر الحرام ومنعه من أداء ما يؤمن العرب على اختلاف آلهتهم به، لم تجد قريش من العرب من يؤيّدها في موقفها ولا من يعينها على قتال المسلمين، وكانت بإمعانها في الصدّ عن المسجد الحرام تصرف الناس عن دين إسماعيل وعن ملّة أبيهم إبراهيم. بذلك يأمن المسلمون أن تجتمع العرب عليهم اجتماع الأحزاب من قبل، ويزداد دينهم رفعة على رفعته عند العرب الذين لا يؤمنون به. وما عسى أن تقول قريش لقوم جاؤا محرمين، لا سلاح معهم إلا سيوفهم في غمودها، يتقدّمهم الهدي الذي ينحرون، ولا همّ لهم إلا أن يؤدّوا بتطواف البيت فريضة تؤديها العرب جميعا!
أذن محمد في الناس بالحج، وطلب إلى القبائل من غير المسلمين الخروج معه، فأبطأ كثير من الأعراب.
وخرج في أوّل ذي القعدة أحد الأشهر الحرم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، يتقدّمهم على ناقته القصواء، فكانت عدّة الذين خرجوا ألفا وأربعمائة. وساق محمد معه الهدي سبعين بدنة؛ وأحرم بالعمرة، ليعلم الناس أنه لا يريد قتالا، وأنه إنما خرج زائرا بيت الله الحرام معظما له. فلما بلغ ذا الحليفة (?) عقص الناس الرؤس، ولبّوا بالعمرة، وعزلوا الهدى ومازوا جوانبها اليمنى ومن بينها بعير أبي جهل الذي أخذوا ببدر. ولم يحمل أحد من هذا الحاجّ سلاحا إلا ما يحمل المسافر من سيف مغمد. وكانت أمّ سلمة زوج النبيّ معه في هذه الرحلة.
وبلغ قريشا أمر محمد ومن معه وأنهم يسيرون قبلهم حاجين، فامتلات نفس قريش بالمخاوف وجعلوا يقلبون هذا الأمر على وجوهه، يحسبونه حيلة أراد محمد أن يحتال بها على دخول مكة بعد أن صدّهم والأحزاب معهم عن دخول المدينة، ولم يثنهم ما علموا من إحرام خصومهم بالعمرة وإذاعتهم في أنحاء الجزيرة كلها أنهم لا تحرّكهم إلا العاطفة الدينية لقضاء فرض يقره العرب جميعا، عن أن يقرروا الحيلولة بين محمد ودخول مكة، بالغا ما بلغ الثمن الذي يدفعونه لتنفيذ قرارهم هذا. لذلك عقدوا لخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل على جيش يبلغ عدد فرسانه وحدهم مائتين، وتقدّم هذا الجيش حتى يحول بين محمد وأم القرى، وبلغ من تقدّمه أن عسكر بذي طوى.
أما محمد فتابع مسيرته، حتى إذا كان بعسفان (?) لقيه رجل من بني كعب سأله النبي عما قد يكون لديه من أخبار قريش، فكان جوابه: «قد سمعت بمسيرك فخرجوا، وقد لبسوا جلود النمور ونزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا. وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدّموها إلى كراع الغميم (?) » . قال محمد: «يا ويح قريش! لقد أهلكتهم الحرب. ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن يفعلوا قاتلوا وبهم