ولذلك كانت ترى حربهم وحرمانهم من الحج إلى الكعبة واجبا عليها حتى يثوبوا إلى آلهة آبائهم.
والمسلمون أثناء ذلك يذوقون ألم الحرمان من أداء الواجب الديني المفروض عليهم، كما كان مفروضا من قبل على آبائهم. والمهاجرون منهم يذوقون إلى جانب ذلك همّا واصبا وألما لذّاعا: ألم النفي، وهمّ الحرمان من الوطن ومن أهلهم فيه. وهؤلاء وأولئك كانوا في ثقتهم بنصر الله ورسوله ونصره إياهم وإعلاء دينهم على الدين كله، يؤمنون بأن يوما قريبا لا بدّ آت يفتح الله لهم فيه أبواب مكة ليطوفوا بالبيت العتيق، وليؤدوا فريضة فرضها الله على الناس جميعا. وإذا كانت تمر تلو السنة فتساجل الغزوة الغزوة، وتكون بدر ثم أحد ثم الخندق ثم سائر الغزوات والأعمال، فإن هذا اليوم الذي يؤمنون به لا ريب آت. وما أشدّهم لهذا اليوم شوقا! وما أشد ما يشاركهم محمد في شوقهم وما يؤكد لهم أن هذا اليوم قريب!
والحق أن قريشا ظلموا محمدا وأصحابه بمنعهم من زيارة الكعبة وأداء فرائض الحج والعمرة. فلم يكن هذا البيت العتيق ملكا لقريش، ولكنه كان ملكا للعرب جميعا. وإنما كانت في قريش سدانة الكعبة وسقاية الحاجّ وما إلى ذلك من العناية بالبيت ورعاية زائريه. ولم يكن اتجاه قبيلة بعبادتها إلى صنم دون آخر ليبيح لقريش منعها من زيارة الكعبة والطواف بها والقيام بما تفرضه عبادة هذا الصنم من شعائر. فإذا جاء محمد ليدعو الناس إلى نبذ عبادة الأصنام وإلى التطهّر من رجس الوثنيّة والشرك، وإلى السموّ بالنفس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والارتفاع في سبيل ذلك فوق كل نقص، والارتقاء بالروح إلى حيث تستطيع إدراك وحدة الوجود والتوحيد بالله، وكان من فرائض ذلك حجّ البيت والعمرة، فمن العدوان منع أصحاب الدين الجديد من أداء هذه الفريضة. ولكن قريشا خافت إن جاء محمد ومن حوله المؤمنون بالله وبرسالته، وهم من صميم أهل مكة، أن يتعلّق سواد المكّيين بهم وأن يشعروا بما في بقائهم بعيدين عن أهليهم وأبنائهم من ظلم، فيكون ذلك نواة حرب أهليّة. ثم إن رؤساء قريش وأكابر أهل مكة، لم ينسوا لمحمد والذين معه أنهم حطموا تجارتهم وحالوا بينهم وبين طريقهم المعبّدة إلى الشام، وأنهم أثاروا بذلك في نفوسهم من الحقد والبغضاء ما لا يخفف منه أن البيت لله وللعرب جميعا، وأنهم لا يملكون من أمره إلا العناية به ورعاية زائريه.
انقضت ست سنوات منذ الهجرة والمسلمون يتحرّقون شوقا يريدون زيارة الكعبة ويريدون الحجّ والعمرة. وإنهم لمجتمعون بالمسجد ذات صباح إذ أنبأهم النبيّ بما ألهم في رؤياه الصادقة: أنهم سيدخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلّقين رؤسهم ومقصّرين لا يخافون. فما كاد القوم يسمعون إلى رؤيا رسول الله حتى علا بحمد الله صوتهم، وحتى انتقل نبأ هذه الرؤيا إلى سائر أنحاء المدينة في سرعة البرق الخاطف.
ولكن كيف يدخلون المسجد الحرام؟ أفيحاربون في سبيله؟ أفيجلون قريشا عنه عنوة؟! أم ترى تفتح قريش لهم طريقه مذعنة صاغرة.
كلا! لا قتال ولا حرب. بل أذن محمد في الناس بالحج في شهر ذي القعدة الحرام، وأوفد رسله إلى القبائل من غير المسلمين يدعوهم إلى الاشتراك وإيّاه في الخروج إلى بيت الله آمنين غير مقاتلين. وحرص محمد