وبلغت هذه الأخبار محمدا فاضطرب لها. ماذا؟! عائشة هذه تخونه! هذا مستحيل. إنها الأنفة والإباء، وإن لها من حبه إياها وشدّة عطفه عليها ما يجعل مجرّد ظنّ كهذا إثما دونه كل إثم. نعم! ولكن أفّ للنساء! من ذا يستطيع أن يسبر غورهنّ أو يصل إلى قرارة ما في نفوسهنّ! وعائشة بعد طفلة يافعة! وأي شيء هذا العقد الذي فقدته فذهبت تلتمسه جوف الليل؟ وما بالها لم تحدث له وهم ما يزالون في المعسكر من أمره ذكرا؟! وتقلّب النبيّ على أشواك الحيرة، ما يدري أيصدّق أم يكذّب.
أمّا عائشة فلم يجرؤ أحد على أن يبلّغها من كل هذا الذي يقول الناس شيئا، وإن أنكرت من زوجها جفاء لم تعرفه منه ولم يتّفق في شيء مع لطفه بها وحبّه إياها. ثم إنها مرضت من بعد ذلك مرضا شديدا، فكان إذا دخل عليها وأمّها تمرضها لم يزد على قوله: «كيف تيكم؟» . ووجدت عائشة في نفسها لما رأت من جفاء النبيّ إياها، وجعلت تحدّث نفسها: ألّا تكون جويرية قد حلّت من قلبه محلّها! وبلغ من ضيق ذرعها بجفاء محمد إيّاها أن قالت له يوما: لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرّضتني! وانتقلت إلى أمها وفي نفسها من الدهشة لهذا التفريط في أمرها ما آذاها وآلمها. وظلّت في مرضها بضعة وعشرين يوما حتى نقهت، وهي لا تعرف من كل ما يدور حول اسمها من حديث شيئا. أمّا محمد فقد بلغ من تأذّيه بترامي هذه الأخبار إليه أن قام يوما في الناس يخطبهم فقال: أيها الناس! ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولن عني غير الحق! والله ما علمت منهم إلا خيرا. ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا، وما يدخل بيتا من بيوتي إلا معي» . فقام أسيد بن حضير فقال: يا رسول الله، إن يكونوا من إخواننا الأوس نكفيكهم، وإن يكونوا من إخواننا الخزرج فمرنا بأمرك. فو الله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم. وردّ عليه سعد بن عبادة بأنه إنما تقدم بهذه المقالة لأنه يعرف أنهم من الخزرج، ولو كانوا من الأوس ما قالها. وتشاور الناس وكادت تقوم الفتنة لولا حكمة الرسول وحسن مداخلته.
وانتهى الخبر آخر الأمر إلى عائشة، حدّثتها به امرأة من المهاجرين. فلمّا عرفته كاد يغشى عليها من هوله. وانطلقت تبكي لا يحبس دمعها حابس حتى شعرت كأن كبدها تتصدّع. وذهبت إلى أمّها وقد أثقل الهمّ كاهلها حتى كاد ينوء بها، وقالت لها والعبرة تخنقها: يغفر الله لك يا أمّاه! تحدّث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئا! ورأت أمّها الهمّ الذي بها، فحاولت تخفيف أثره في نفسها فقالت: أي بنيّة، خفّفي عليك الشأن فو الله لقلّما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثّرن وكثّر الناس عليها. ولكن عائشة لم تتعزّ بهذا القول، وزادها ألما أن ذكرت جفاء النبي إيّاها بعد الذي كان من لطفه بها، وأن شعرت بأنه قد وقع في نفسه من هذا الحديث أثر وقامت بنفسه منه ريبة. لكن ماذا عساها تستطيع أن تفعل؟! أتفاتحه في القول وتذكر له الخبر وتقسم له أنها بريئة؟! هي إذا تتهم نفسها ثم تدفع التهمة بالايمان والتوسّلات.
أفتعرض عنه كما أعرض عنها وتجفوه كما جفاها؟ لكنه رسول الله هو قد اصطفاها على نسائه، وليس من ذنبه أن تحدث الناس عنها بسبب تأخرها عن العسكر وعودها مع صفوان. ربّاه؟ ألهمهما في هذا الموقف الدقيق مخرجا يتّضح لمحمد معه الحق في أمرها ليعود إلى مثل ما كان حبّها والعطف عليها واللطف بها.